ليس الجبل وحده ما يَحُول بين يوسف والعريان
مهمّة الفلسطيني ألّا ينسى، هذه هي الحكمة البالغة التي تدور حولها رواية الكاتب الفلسطيني خليل عانيني “رحلة البحث عن العريان”. فقد أولت الرواية أهمّيّة قصوى لفعل التذكّر ومقاومة النسيان، هذا الفعل “التذكّر” الذي يجيء في سياقه مناهضاً للمشروع الاستيطانيّ الاحتلاليّ في فلسطين القائم على المحو والتغيير والإحلال. فالإسرائيلي يريد لنا أن ننسى كلّ شيء، فلذلك يظلّ متشبّثاً بحلمه ومقولته في أنّ الكبار سيموتون والصغار سينسون. خليل عانيني يقاوم هذه المقولة في هذه الرواية مقاومة عميقة، وذات مخالب حادّة تنهش الوعي الفرديّ والجماعيّ، فتدمي وتؤلم وتوجع. علينا أن نظلّ نعيد الحكاية من أوّلها. علينا ألّا نملّ أو نضعف أو نتكاسل، لم يبق لنا غيرها. لأنّ تكلُّس الذاكرة يعني ضياع الحكاية، وإذا ضاعت الحكاية فإنّ فلسطين ستضيع وتتلاشى وتُنسى، وربما أصبحت “أندلساً أخرى، لأنّ ثمّة معادلات على الأرض تدفع نحو هذا الاتّجاه من المحو والإلغاء، ولذلك فإن بنات آوى رفيقات يوسف في الرحلة تقول له: “قلنا لك فرّط بكلّ شيء إلّا الذاكرة”. (الرواية، ص23)
تأتي رواية “رحلة البحث عن العريان” لتواجه الواقع الحالي بمفرداته السياسيّة والثقافيّة، وتدقّ ناقوس الخطر، فالأرض تضيع لأنّ الحكاية تضيع، فـ”من يكتب الحكاية يرث أرض الكلام/ ويملك المعنى تماماً”، كما قال الشاعر محمود درويش، فقد أشارت الرواية إلى وسائل هذا الضياع وأدواته من تهويد للأرض وزرع للمستوطنات وتغيير الأسماء، وإحلال اللغة العبرية محلّ العربيّة، وقلع الفلسطيني والسيطرة على التاريخ وتأويله.
يقترح الروائي حبكته الروائية على شكل رحلة يقوم بها السارد يوسف الفلسطيني اللاجئ الذي يتسلّل عبر الحدود ليعبر إلى فلسطين ليبرّ بوعده وإرجاع شاهدة قبر جدّه إلى بلدهم- العريان- التي هجروا منها. لقد قضى أبوه نحبه في الشتات، في المخيم، ولم يستطع زرع شاهد القبر على قبر أبيه، جدّ السارد يوسف، فيتحمّل يوسف هذا الإرث، فيحمل الشاهد معه ويتسلّل إلى فلسطين.
لم تكن الرحلة سهلة بتاتاً، فقد واجهته مصاعب كثيرة، تساعده بنات أوى في هذه الرحلة وتقوده فيها، وتعرّفه على المكان وعلى الطريق، بحكم أنّها طيور فلسطينيّة وتعرف المكان جيّداً، ومن خلال هذه الرحلة تبني الرواية حكايتها، فتعرّفه بفلسطين وأماكنها وطيورها وأشيائها، وتساعده على التذكّر، وتحذّره من النسيان، إنّه تبني عالماً سرديّاً محمّلاً بالإشارات والرؤى، وإن كان محمّلا أحياناً بنفَس عجائبيّ وخياليّ، ولكنّها حيلة روائيّة استطاع الروائي من خلالها تمرير رسائله المباشرة وغير المباشرة. وتأكيد علاقته بالأرض، هذه العلاقة التي تنمّ عن الحبّ والانتماء المبنيّين على المعرفة بأدقّ التفاصيل.
يختار الروائي للحفيد اسم يوسف، ولهذا الاسم دلالته التي درج الكثير من الأدباء، عرباً وفلسطينيّين، على الاتّكاء عليها لتحميلها مدلولات سياسيّة وثقافيّة موجّهة، فيوسف، عليه السلام، الذي كان في هذه البلاد وأودى به إخوته في رحلتهم إلى مصر، ثم سجن وخروجه من السجن، وصولاً إلى اعتلاء العرش. ثمة يوسف فلسطيني آخر يقوم برحلته ليبحث عن مكانه الذي طرد منه أبوه. ربّما كان الرابط واهيا بين الرحلتين، ولكن ثمة ما يتشابه به الفلسطيني مع يوسف في محنته، فكلاهما كان ضحية لأخوته، وهذا ما تقوله الرواية أيضا، فالفلسطيني اللاجيئ في بلاد العرب متّهم في كلّ حين، متّهم إن تحدّث، ومتّهم إن سكت، ومتّهم إن انعزل أو شارك إخوته. مجرّد أن تكون فلسطينيّاً في بلاد العرب فأنت يوسف، أي أنت مكروه، وستتعرّض للكثير من المصاعب.
ربّما حمل الاسم بعداً أكثر أملاً؛ إذ تتردّد البنية السرديّة بين قتامة اليأس ونور الأمل، ألا يحقّ ليوسف الفلسطيني أن يأمل بالعودة؟ بل عليه أن يظلّ حالماً بالعودة ومصرّاً عليها، وهو إن عاد فإنّه سيعود إلى “جنّته الموعودة” وإلى “فردوسه المفقود” لتنتهي رحلته بالظفر، كما انتهت رحلة يوسف النبي بالظفر كذلك.
يقصّ السارد يوسف مسار رحلته من مبدئها إلى منتهاها بضمير “أنا”، وهو سارد مشارك- بلغة النقد الروائي- ومن خلال ذلك يبني حكاية فلسطين، كلّ فلسطين، فلسطين الحاضر، وفلسطين النكبة، وفلسطين التاريخية الموغلة في التاريخ ويعود بالقارئ إلى قصّة الخلق الأولى وقصّة هابيل وقابيل وقتل أحدهما أخاه وقصّة الغراب، إنّه نوع من تأصيل الحكاية وتجذيرها، وبكلّ مرحلة ترى الفلسطيني الإنسان وفلسطين الجغرافيا، وفلسطين الثقافة والحضارة ماثلة وبقوّة. يواجه السارد بذكاء حكاية الآخر الطارئ الغريب الذي لا يعرف هذه البلاد، ولا يعرف أشياءها ولا حيواناتها ولا يعرف تاريخها، وعلى النقيض من ذلك فإنّ “سكان البلاد يعرفون الصخر كما يعرفون أسماء أبنائهم، ويعرفون لغة الطير كما يعرف هو لغتهم”. (الرواية، ص43)
بالمقابل يواجه الآخر هذه المعرفة بسرقة المدن والأشياء، ليبني تاريخاً ما، إلّا أنّه تاريخ استعماريّ مزيّف قائم على السرقة، سرقة الغنم، وسرقة الألحان والأغاني، وليس فقط سرقة الجغرافيا وتشويه ملامحها. إلّا أنّ الأرض تأبى أن تفارق صورتها الأولى. إنّه يتوجّه نحو تلك الأمارات التي تدلّ على وجود الفلسطيني في هذه الأرض، كالكهوف والأسماء والثقافة. وحتى المقبرة؛ فهي “دليل، ووعي وذاكرة، هل سمعت أنّ المحتلّين لهم قبور قديمة في هذه الأرض؟” (الرواية، ص26). ولأنّ الآخر ليس له تاريخ في هذه البلاد يدلّ عليه أخذ يمحو التاريخ الفلسطيني، “فالمكان كلّه زرعه المستوطنون بالأشجار الغريبة، وعملوا منها خارطة بين الممرات والطرق وحوّلوها كلّها إلى منتجع سياحيّ، يظنّون أنّها بذلك تكون أجمل، لكنّهم شوّهوها وألبسوها ثوب الغربة”. (الرواية، ص105)
لقد بدا السارد شخصيّة حزينة، لكنّها شخصية قادرة على المواجهة وليست ضعيفة، تحارب على جبهات متعدّدة، داخليّة وخارجيّة، غرباء وإخوّة وأشقّاء، بل إنّ المواجهة في سياقها السردي تدين الفلسطيني الذي خان القضية الفلسطينيّة، فخميس الضبع الذي انقلب على الثوّار أيّام الاحتلال البريطاني، قد أسّس هذا الضبع “سنّة سيّئة لمن جاءوا بعده، وخانوا شعبهم وبلادهم” (الرواية، ص107)، بل إنّ السارد يوسف- وهو يروي عن رحلته- يتعرّض لكثير من الأسباب التي أدت إلى ضياع فلسطين، فليس الاحتلال وحده هو الذي أضاعها، فملّاك الأراضي من الإقطاعيّين والعائلات الكبرى كانوا أحد هذه الأسباب، إذ لم تكتفِ تلك العائلات بالظلم الذي كانت تمارسه على الفلّاحين في ذلك الزمن، بل زادوا أنّهم تعاملوا مع الاستعمار وأعطوه ما بذل الفلّاحون دماءهم لأجل الحفاظ عليه مقابل نزواتهم وشهواتهم البهيميّة”. (الرواية، ص81-82)
تناقش الرواية- خلال هذه المسيرة من الرحلة القاسية- مسائل ثقافية لها علاقة بمواجهة الفلسطيني وروايته، فثمّة مستوطنون يحتلّون الجغرافيا ولا يكتفون بطرد الفلسطينيّين، بل يحملون عنهم فكرة أنّهم “متوحّشون وقتلة”، و”جشعون ويحبّون المال ويغدرون بمن يمدّ لهم يده بالخير”. إنّهم يقلبون المعادلة تماماً، فقد وصفوا الفلسطينيّين بما هو فيهم، هؤلاء الفلسطينيّون الذين لم يتوانوا عن تقديم المساعدة للمستوطن الذي أصيب بحادث طرق ذاتي، ليخيّب ظنّهم عندما أخذ يتحسّس مسدسه وهو جريح وقد رآهم مقبلين عليه، وشبيه بذلك ما قامت به القوّة العسكريّة التي وصلت إلى مكان الحادث وأحضرت معها سيارة الإسعاف، فقد تعاملوا مع الفلسطيننين بصلف وجلافة، حيث “بدأ الجنود بتوبيخ المسعفين الفلسطينيّين.. صرخوا بهم وأبعدوهم عن صاحب الحادث”. (الرواية، ص35)
تطرح الرواية كثيراً من القضايا المهمّة، وتأكّد ما تحدّثت عنه الرواية الفلسطينيّة، ولعلّها لم تأت بجديد فيما يخصّ الصراع مع المحتلّ ولعبته منذ ما يزيد عن قرن من الزمن، وأبجدياته، ومآلات الأرض والإنسان الفلسطيني اللاجئ، إنّها تعيد ما قيل في روايات أخرى لكتّاب آخرين، لكنّها اختارت الاختزال والاختصار والإشارات إلى كلّ تلك الأفكار التي تولّدت عن هذا الصراع داخليّاَ وخارجيّاً، كأنّها تريد تذكير القارئ “كي لا ينسى”، هذه هي الثيمة الأساسيّة التي تقوم عليها الرواية. وهذه هي الفكرة نفسها المفتاح السري والسحري للعودة الكاملة، وللانتصار على عدو سرسٍ، أكل الجغرافيا واللغة، وغيّر الأسماء، وقلب التاريخ، واختلق الحكايات الزائفة؛ ليبني روايته على الخرافة.
لم يناقض السارد ذاته وظلّ وفيا لقناعته السياسية والفكرية، ولعلّ عدم وصول يوسف إلى قريته “العريان” واضطراره إلى العودة إلى حيث جاء من المخيّم، دليل واضح على رسالة الرواية التي جاءت في ثنايا السرد، فقد أعلن يوسف موقفه صراحة من العودة المنقوصة بقوله: “سنعود مرّة واحدة، ودفعة واحدة، لأنّ العودة المجزّأة اعتراف بالهزيمة، بل هي هزيمة الهزيمة” (الرواية، ص29). فليس الجبل وحده إذاً ما يحول بين اللاجئ يوسف وقريته “العريان”. ثمّة أشياء أخرى يجب أن يلتفت إليها لتكون عودته صحيحة وحقيقيّة.
وفي هذا الإعلان أيضاً إدانة للنهج السياسيّ العامّ للسياسة الفلسطينيّة التي سلمت بوجود الاحتلال ورضيت بالعودة المنقوصة؛ لتصبح مقولة “الحياة مفاوضات” تعني “الحياة هزائم” كما جاء في الرواية. هذه الهزائم التي فرّخت طبقة التماسيح، هذا المخلوق العجيب الذي “إذا بكى كذب، وإذا أكل لا يبقي ولا يذر، ولا يُؤتمن جانبه، وأسوأ ما فيه أنّه لا يموت بسرعة”. (الرواية، ص28)
وأخيراً، لعل الرواية تكتسب أهميتها الموضوعية من أنّها ما زالت تتمسّك بالحقّ الثابت للشعب الفلسطيني في فلسطين كلّ فلسطين، وتستند إلى نظرية “الحقّ التاريخي”، وترى في الآخر طارئاً سيزول يوماً ما، طال الزمان أم قصُر، مع أنّ هذه النظرة فيها الكثير من الرومنسية والحنين والاتّكاء على الماضي غير المدعوم بما يجعله بليغاً ومتحقّقاً في حياة الفلسطينيّين لا بالإرادة السياسيّة الداخليّة، ولا على الصعيد القومي، ناهيك عن الوضع الدولي الذي يعمل ضدّ الحقّ الفلسطيني جهارا نهاراً. كما أنّها تكشف عن أنّ الناس العاديّين لديهم حكاياتهم التي يجب أن تحكى وتسرد، فكلّ الشخصيات التي التقاها يوسف عبر رحلته الشاقّة وحكى لنا قصصها تبيّن أنّ كلّ فلسطيني في هذه الأرض له حكايته التي تفيض وجعاً ومرارة وغرابة، ففظائع الاحتلال في معركة النكبة المشؤومة وما بعدها، لم تُروَ بعد ولم يؤرّخ لها على وجهها المطلوب. فلكي لا ننسى علينا أن نكتب حكايتنا وألّا نتنازل عنها، وهذا أضعف الإيمان في مواجهة هذا الخذلان الكبير الذي يغرق فيه الفلسطينيون سياسيّاً، فلا أقلّ من أن يبنوا حكايتهم ويصرّون على وجودها وإعادتها مراراً وتكراراً فإنّ فيها تجدداً للذاكرة ومقاومة لأشدّ أعداء الفلسطيني، وهو النسيان ومحو الذاكرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* صدرت الرواية عن دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، ط1، 2021، وتقع فبي (119) صفحة من القطع المتوسّط.