“رسالةٌ في ما , ولا يعجبُني من الوَرد”. – محمد بكريّة

” أحبّ تلك التي تشبه أمّي”

ليس الوردُ متشابهًا, لا في ألوانِه وأشكالِه, لا في  اصطفافِه وحتى رائحته, هناك ورداتٌ تصطفّ أو قُلْ قد صُفّتْ بإتقان كطوابير أقزام العسكر , في ساحاتِ البيوت وخواصرِ الشُرفات , على جوانبِ الشوارع وميادين الطرقات , وأقولُ قد صُفّتْ , لأن أيادي البشر هي من هذّبتْ وضعيّتها ورتّبتْ نظامَ انتصابِها في الطوابير , وهي من هندستْ بلا استئذان أطوالَها, لمّا شذبَتْ وقلّمتْ , فخضعَت لأذواقِهم ومشيئتهم , مستجيبًة لنبْرِ إحساسِهم حتى تكادُ تحسبُها اصطناعية , لا روحَ فيها ولا فرح ولا رائحًة شذيّة ,  فمنْ أين يأتيها  وقد فقدتْ الحريّة؟

هذه , أيْ أنواعُ الورود , تبعثُني إلى التماهي مع حالِها , فينتابُني ما يشبهُ الحزنَ السريع كلّما مررْتُ بجانبها غيرُ آبه بوجودِها , هذا الشعور وليدُ طَبْعي الغيور على الاستقلالية  وثورةِ  التصرّفِ على السجيّة , عِلمًا أنّني لا أُنِحي عليها بالّلائمة ,  ففي حالة هذه الوردات الشقيّات , أوقِنُ جيّدا أنّ لا دورَ أو قرارَ لها فيما هي عليه , من المحتمل , بلْ من المؤكد أنّها رغبَتْ كأبناءِ جنسِها بالانبثاق في مكانٍ آخر , أو بافتراشِ مكانٍ مختلف بمساحةٍ تختلف , لكنّ القدرَ جعلها تنصاعُ ليدِ الزارع , فكفّرها في بطنِ الأرض , هكذا اختارَ لها ما لم تخترْ هي , فقضى أمرَها وحسمَ مصيرَها . ألا يبعثُها ذلك على  الحزنِ وأنا على الشفقة؟؟.  توقّفتُ بجانب صفٍّ من الورد صبيحةِ يومٍ ربيعيٍّ  مشمس , شدّني أنّها , أيْ ورداتِ ذاك المكان , كانتْ مطأطآتِ الرؤوس , شاحبات , متكدّرات , كأنّها في مأتمٍ على عزيزٍ قد فارقتْه , ولأنّي فضوليٌّ بطبعي وحشريٌّ تقدّمْتُ منها , قرفصْتُ وتفرّسْتُ في كبراها, سألتُها بصوتٍ خافت : ما خطبُكُنَّ هذا الصباح , على غير عاداتِكُن!

استدارت ببطء صوبي  صادغًة عن شقيقاتِها , أجابتْ بصوتٍ متهدّجٍ محشرج :

 يتأتانا  الحزنُ كلّما انبلج الصبح , ففي هذه الأوقات  يأتينا الزارعُ  لنثرِ الطعام لنا  وإسقائنا , حينها نتذكّرُ أنّنا نعيش عالٍ على الدنيا , نأكلُ ونشربُ من خير غيرِنا , لا نجتهدُ ولا يُسمَحُ لنا بذلك كي نؤمّنَ كفافَ يومِنا,  إنه مبعثٌ  على الحزن  , لمّا يكونُ الحيّ فائضًا عن اللزوم , عاجزًا عن العمل من أجله على الأقل ,  أتسألنُي لِمَ نحن حزينات؟ إنه مسبّبٌ آخر لهذه الحالة , القلقُ مما هو آتٍ , فنحنُ نعيشُ مدلّلاتٍ كالعرائسِ في أوج عنفوانهنّ وكامل حُللهنّ , لكنْ  , أليس من المحتمل أن يتوقفَ الزارعُ عن استحسانِنا مستقبلًا ويقرّرَ اقتلاعَنا وإماتتَنا ؟؟ لاستبدالِنا   بمن  هنّ أكثر حُسْنا وجمالًا , تمامًا كرجلٍ مصابٍ بهوس النساء , ينفردُ من الأولى حينما يتعرّفُ على  أخرى أجملَ وأبهى , كي يُشبعَ رغباتِه العاطفية , فهل نسعدُ ونحن مهدداتٌ بالزوال والفناء؟

أليسَ هذا مبعثًا للعُزلة والشقاء؟ فمن أينَ يأتينا الفرحُ نحن الورود , إذا كان نصيبُنا في الحياة القلقَ على المستقبل ودوامَ الخوفِ والشرود؟؟ .

قالتْ ثمّ استدارت ثانية محجِمًة عنّي وانفجرتْ وشقيقاتُها بالبكاء .

أحببْتُ تلك الورود لمِا تتمتعُ به من عزّةِ نفسٍ وإباء وأنفةٍ وكرامة.

وأقولُ :

 ليستْ الورودُ متشابهة , نعم, منها ما تشبه طفلًة مدلّلة, ساذجة , بريئة.

 ومنها ما تحسبُها صبيّةً مغرورة بجمالِها , توظّفُ إبداعاتِها الفنيّة والحسيّة لجعل مواضعِ مفاتنِها أكثَر أنوثًة وإغراء , كي تهيّجَ شبقَ المحبّين , تلك الورود تنادي , بلْ تصرخُ أنْ اقتربوا أكثرَ , هيموا, تحرّقوا , تحسّروا وإياكم أنْ  تلمِسوا. أنا لا أحبّ تلك الورودَ الرخيصة , التي تتقنُ فنّ الغواية كالفتيات ,  لا لشيء , بلْ كي يتبجّحْنَ أمام هوسهِنّ الأنثويّ بأنهنّ موضعُ اهتمامٍ وذواتُ قيمّة , قيمٍة عاطفيّةٍ أو جنسيّة , كما لا أستسيغُ من تشبهُها من الفتياتِ والصبايا , لأنهنّ يجهلْنَ مواضعَ الجمال الحقيقي , الكامنةَ في النفسِ والروح والعقلِ والخلُق العالي , وهنّ يجهلنَ أنهنّ بهمزاتهِن ولمزاتهِنّ يقتربْنّ من إناثِ الشياطين , ويحوّلْنّ أنفسَهنّ إلى سِلعٍ بشريّةٍ سرعان ما يلفظُها ذبابُ البشر إنْ فِضْنَ عن حاجتهِنّ أو أزدحمَتْ بهنّ السوق.

وأقولُ :

 ليستْ الورودُ متشابهة , أبدًا , أبدًا .

أحبُّ إلى حدّ التّنزيه  والتقديس , تلك الورود , التي تتمتّعُ بخصائلَ وشمائلَ سامقة , مثلَ الكبرياء والشموخ, النخوةِ والعزيمة وقوّةِ الشكيمة , المَلاحة , والزَهو والبهاء , النضارةِ والوضَاءة.

تجدُها في أماكنَ شاءتْ هي بها , وقد أبَتْ السجنَ والسجّان ,إذْ ليس من طبائِعها الامتثالُ لأمرٍ أو لمشيئةِ الغير, كما ليس من طبعِها الّلحاقُ بالموكبِ العام , فهي تفقَه سُنَنَ الإبداع في الصعودِ فوق , ومناطحةِ رياحِ الشتاء  , والصبرِ على أقياظِ الصيف , والحرّ إذا ما ذكَتْ الشمس ,  لتُكملَ دورة َ الصمود والعيشِ بحريّة , بعيدًا عن التطفّلِ والتبعيّة , هي تؤثرُ العيشَ بمنأى عن الخدمِ والدلالِ الزائفِ المؤقّت والذي سرعان ما يخبو ,  تراها قابضًة على صرّةِ الأرض متشبّثًة بالتراب , كي تأخذَ حصّتها منه لضمانِ بقائٍها ومن تَبِعَها , ولا تقبلُ منّة أو صدقًة من جنّانٍ أو زارعٍ , تعرفُ كيفَ تحلبُ غيمَ السماء لترتوي من الماء , هي مَنْ تخلقُ لنفسِها أسبابَ الحياة , لذا , يحلو لها أنْ تشرئبّ , ودائما تراها , عاليةً , باسقةً , منفرجةَ الأسارير , ضاحكًة , ودُودةً , فخورةً بما تقدّمُه لنفسِها وصغارِها , لا تقبلُ من يتدخّلُ في ترتيبِ بيتِها أو رسمِ شكلِها, لأنّ يدَ الآخر تتحرّكُ بما يليقُ ورغبةَ صاحبِها , وهذه الرغبة إنّما هي ترجمةٌ لأذواقِه , والأذواقُ دلالةُ الإحساس , وهي , أيْ تلك الورود تنأى بنفسِها عن أحاسيسِ الغير , فمَنْ مثلُها يمكنُه أن يرتّبَ هندامَها , ويجمّلَ محرابَها , أليستْ صديقةَ الجبالِ والسهولِ , الأفياء , الفيافي والحقولِ؟.

وقدْ علّمتها صلابةُ الطبيعةِ وأحسنَتْ صَقْلَها , ما لمْ تتعلّمُه في الأحواضِ والمشاتل, حتى صارتْ تقارعُ القدر بشبقِ حبّها للحياةِ الكريمة , تراها تنوء تحتَ كلاكلِ الريح في فصولِ الشتاء العاصفة , تهتزُ بقوّة , تتمايلُ على جوانبِها , تنحني , تُطرَحُ أرضًا كصريعٍ في ساحة الوغى تئنُّ , لكنّها لا تستسلمُ أبدًا , لأنّها تستقيمُ  وتنتصبُ من جديد كفارسٍ صنديد , معلنةً انتصارَها على القَدَر , تنفرجُ ملامحُها , تعاودُ ابتسامتَها , تعيدُ البهجةَ لمنْ حولَها وللناظرين , ترفعُ رأسها في خشوع وتقوى وتصلّي لربّ العالمين ,  تراها ساكنًة , هادئًة , حالمة , راضيًة ,  فهي عصيّةٌ , أبيّةٌ على تباريحِ الدهر وخطوبِ السنين, إنْ لم تكُ كذلك فمن الذي سيبهجُ قلوبَ المحبّين؟ ومن الذي سيغبطُ العاشقين ؟من سيمدُّ ذراعيْه للفراشِ إنْ استضافَها ولكلّ السائلين؟  

هذه هي الورودُ التي أحبُّها حدَّ الثمالة , أليستْ شبيهًة بأراملِ بلادي! الصابراتِ , المحصّناتِ,  العفيفاتِ , المؤمناتِ ,الراضياتِ , الطاهراتِ , التقيّاتِ , النقيّاتِ .

أليستْ شبيهًة بأمّي!.

 

 

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*