قراءة في كتاب الأسير راتب حريبات “لماذا لا أرى الأبيض؟” بقلم حسن عبادي

 

وفاة الأسير كمال أبو وعر خلف القضبان في سجون الاحتلال أخذتني مجدّدًا لكتاب “لماذا لا أرى الأبيض؟” – محطات الآلام في عيادات الظلام للأسير راتب حريبات (دوّن فيه قصصًا حقيقيّة لأسرى مرضى في سجون الاحتلال، 93 صفحة، منشورات حركة التحرير الوطني الفلسطيني، تصميم الغلاف: رامي قبج، المونتاج الفني: دار البيرق العربي، إصدار دار الأمين للنشر والتوزيع).

رتّبت بداية تموز لقاء أسرى في مستشفى/مسلخ/سجن الرملة سيّئ الصيت المعروف بالمراش؛ إثر إشاعة بإصابة أسير بالكورونا واهتمام صفحة “صوت الأسير” التي يديرها الأسير المحرّر خالد عز الدين بالأمر، وتمهيدًا لإطلاق الحملة الدوليّة نتاج حراك للحركة الأسيرة داخل سجون الاحتلال لإنشاء لجنة عالميّة للدفاع عن حقوق الأسرى.

التقيت الأسير إياد فوزي عبد الكريم رضوان؛ المعروف ب”طبنجة”، حدّثني بحماس عن ناهض/منصور/خالد/معتصم/صالح/موفّق وغيرهم، فهم رفاقه في المسلخ(يوجد 17 مريضًا)؛ منهم من بُتِرت رجلاه، “بطنه برّا”، شللًا كاملًا، مرض الأمعاء، سرطان المعدة، الفشل الكلوي، أمراض القلب، البواسير، ألم الأسنان، ألم الرأس المُزمن، وجع الظهر، الأزمة، عمليات في العيون…ومحمد ابن التاسعة عشرة مع مرض السرطان بين الحياة والموت، كلّ منهم مشروع موت مؤكّد!

دوّن الأسير الراحل زهير لبادة في مجموعته القصصيّة “آهات من سجن الرملة” رحلة عذاب الأسرى المرضى نتيجة سياسة الإهمال الطبي المتعمّد،  صوّر عذابه ورفاقه الأسرى،  طريق الآلام ورحلة العذاب للأسرى، وخاصّة المرضى وتنقّلهم في البوسطة من سجن لآخر.

تطوّع الأسير حريبات لخدمة أسرى مرضى في عيادة/مستشفى/مسلخ الرملة لمدّة أربع سنوات، ما يقوم له طبنجة الآن، وعبّر عن صدمته حين وصوله: “فوجئت بل يمكنك أن تقول صُعقت! فإذا بالقسم هو قسم عادي مثل باقي أقسام السجون الأخرى، التي يتواجد بها الأسرى الفلسطينيون! نفس الغرف والأبواب والأقفال التي توضع على الأبواب بشكل يومي! ونفس مناظر السجّانين الذين يحيطون بالقسم، بل إن الحراسة والتشديد على هذا القسم أكثر من الأقسام العادية في باقي السجون… نفس الغرف والأبواب والجدران نفسها تمامًا! حتى اللون الأزرق الذي تُدهن به أبواب السجون كما هو نفس اللون في باقي السجون، وكذلك الأبراش هي نفسها ولا يختلف شيء عن السجون كلّها”.

تساءل لماذا لا يرى الأبيض؟ متّبع عالميًا أنّ الطبيب والممرضّة يرتدون الزيّ الأبيض، رمز النقاء، الصفاء، البراءة وبياض الأمل في نفوس الناس ولكن، ويا للهول، الطبيب وكلّ أفراد الطاقم يلبسون رداء مصلحة السجون!

تناول الكتاب أحوال الأسرى وأمراضهم؛ تعجّ سجون الاحتلال بمرضى مُزمنين، وقد دوّن حريبات قصص بعضهم في هذا الكتاب/الوثيقة؛ منهم جعفر عوض الذي أصيب بمرض نادر: أعراضه شاملة منها السكّري، الالتهابات، الضغط، سقوط الأسنان، عدم القدرة على الحركة، صعوبة في الكلام، فقدان سريع للوزن، تقيّؤ بشكل مستمر واصفرار الوجه!

أمّا حكاية الأسير المُقعد منصور موقدة فتقشعرّ لها الأبدان؛ أمنيته من الله أن يستطيع دخول الحمام من أجل قضاء حاجته. هذا كلّ ما يتمنّاه بالحياة! وكذلك الأمر مع خالد الشاويش  المُقعد على كرسي لا يستطيع الحركة، صار كتلة بشريّة كبيرة مجبولة على المعاناة، أمنيته أن يقف على قدميه، تحوّلت الجدران وقلوب “الطاقم الطبيّ” إلى لون الرماد أو “سخام طابون جدّتي” على حدّ وصفه.

قصّة الأسير المرحوم سامي أبو دياك الذي يعاني من أوجاع في معدته إثر إصابته بمرض السرطان، تشكّل اغتيال طبيّ متعمّد، يصوّر حريبات طريق الآلام التي مرّ بها، ونقله من سجن لأخر، من مستشفى لآخر. أمّا بسام السايح فعانى من مرض سرطاني مزدوج وأهمل وضعه الصحيّ لتتدهور حالته  حتّى الموت؛ وقال قبل وفاته:

“أوصيكم بالقدس

أوصيكم فلسطين

أوصيكم بالأسرى المرضى… وتحديدًا

الأسرى الذين يقبعون في “سجن الرملة”

أوصيكم  بأن لا تتركوهم يموتون في هذه المقابر

لا تتركوهم في هذه السجون الطاغية…

كما تركتموني، أموت هنا وحيدًا بعيدًا عن أهلي وأحبّتي

بعيدًا عن أهل وطني فلسطين وعن القدس الغالية” (ص. 83-4)

للأطفال نصيب وافر من المعاناة؛ جلال الشراونة ابن السابعة عشرة، أصيب بقدميه دخلت قدمه 36 رصاصة! والإهمال الطبّي المتعمّد وبشكل مقصود وواضح أدّى لتفاقم وضعه وبتر قدمه، وخلال التحقيق معه “تم الضغط عليه بشكل جسدي ونفسي وقام رجل المخابرات بعرض صور لقدمه التي بُترت من خلال شريط مرئي، فيديو، مصوّر وكذلك صورة الجنازة في الخارج حيث قام أهله بدفن قدمه المبتورة بجنازة دفن رسميّة”. كذلك حالة الشبلان عمر الريماوي وأيهم الصباح؛ لم يبلغا الخامسة عشر ساعة إصابتهما ونقلهما إلى مسلخ الرملة،  أصيب أيهم بيده اليمنى وكان عُمَر مصابًا في العمود الفقري والصدر. أمّا الطفل أسامة زيادات فوصل إلى هناك وعمره 14 عامًا بعد إصابته برصاصة غاشمة في الصدر وأخرى في قدمه اليمنى وقال في أوّل مقابلة بعد  تحرّره: “والله إنّ في مستشفى الرملة أسرى مرضى يحملون أوجاعًا وآلامًا لا يستطيع الوطن العربي بأكمله أن يحملها ولا حتى الجبال الراسيات، وأقول لكلّ القيادات والفصائل الوطنيّة: اهتموا بالأسرى المرضى، هم أمانة في أعناقكم ولن يسامحكم التاريخ والوطن إذا لم تحرّروا أسرانا المرضى”.(ص. 56)

صوّر كذلك زيارة الأهل ومعاناة الأسير الذي يحاول جاهدًا كبت ألمه ومعاناته ساعة الزيارة؛ وانتقد بحدّة تسويفات ووعود وزارة الأسرى، مماطلتها وتقصيرها بتلبية احتياجات الأسرى.

استعمال الهوامش في الكتاب، إلحاقها بالنص في أسفل الصفحة، حيث تهدف إلى تسهيل النص على القارئ، جاء موفّقًا: “البُرش” – مكان نوم الأسير، “الشاباك” – جهاز الاستخبارات، “الكلبشات” – القيود والأصفاد، “الكنتينا” – الدكان أو المقصف الذي يشتري منه الأسرى لوازمهم الشخصيّة وتكون حيث الأسعار عالية واستغلاليّة، “الأشبال” – الأطفال داخل المعتقلات، “رصاصة الدمدم” – رصاصة مجوّفة من مقدمتها تقوم بالتوسع والانتشار عند اصطدامها بجسم ما، “النحشون” فرقة خاصة للنقل بين السجون وإلى المحاكم تمثّل أداة إرهاب وقمع وعنف بحق الأسرى وغيرها، باستثناء “فانتوم سندروم” (ص. 36).

 

قصّة أسرانا لم تُحكَ بعد؛ بقيت  مُهمّشَة، منسيّة ومُغيّبَة، هناك مرضى فوق أسرّة التشريح مكبّلين في مقصلة/مسلخ سجن الرملة للأحياء الشهداء، لكلّ منهم قصّة، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيقها، فخلال زياراتي في الآونة  الأخيرة تبيّن أنّ من أهمّ الأمور التي تشغلهم هي قضيّة الوضع الصحّي المتدهور الذي يعاني منها الكثيرون من زملائهم في الأسر، والإهمال الطبي المتعمّد مع سبق الإصرار والترصّد من قبل سلطة السجون.

 

كلمة لا بدّ منها؛  أزعجتني الأخطاء النحويّة واللغويّة والإملائيّة، ممّا أساءت للكتاب وكاتبه.

 

أنهي بنص يجعلك تشعر بالألم والحرقة، كتبه حريبات بعيدًا عن الأوزان الشعريّة، تحت عنوان “رجالٌ ينتظرون الموت”:

 

“بالرملة توجد رجالات           أبطال عَالعربات

ماهمّهم      الإصابات           وقلّة  العلاجات

بلّغوا القيادات                     مرضانا صاروا وفيّات

قالوا في الاذاعات                أسرانا خاضوا اضرابات

لحفظ الكرامات                   ولحماية العائلات

أكتب كل التفصيلات             عن بعض الرجالات

مرضى الرملة                    في عداد الوفيّات”

 

كتب الأسير المرحوم كمال ابو وعر في وصيّته: “إنّ أقسى أنواع الموت هو هذا الموت الذي لا صوت له، لا أحد يسمعه، يظل مدفوناً خلف الجدران، يندثر في الصدى والنسيان، فلا تكونوا أيها الناس مشاركين في هذا الصمت، حنجرتي مخنوقة ولكن الموت يتكلم، من يصغي ويحرك أوتار حنجرتي ويسمعني الآن. إكتب بحبرك عني وعبّر.. فزنزانتي خرساء صامتةٌ كالقبر، اكتب ولا تخف فأنت حر.. أما أنا أسيرٌ أتجرّع المر”!

 

الحريّة لأسرى الحريّة، فهواء الحريّة هو خير علاج للسجين.

 

حسن عبادي

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*