أموت وفي نفسي شيء من الهمزة!
**
عرف كيف يسخر من “الباب العالي”..ويمسح به الأرض!
كثيرًا ما كان يتردد على صالون الحلاقة الذي يديره “أبو فتحي الصفدي”..حيث يلتقي الأحبّة..وغير الأحبّة!
وتنشأ بيننا علاقة وُدّية عززها إعجاب الطالب بأستاذه من ناحية.. ومن ناحية أخرى تقدير الأستاذ لطالبه الذي يطمح لأن يقتدي بالكبار..ويسير على خطاهم وعلى هَديهم..إنهم أدباء وخطباء ورجال سياسة ومثقفون وطنيون يملأون المشهد!
نحن في خندق واحد!
كان عبد الله طالبًا في الصف الثامن..وكان أبو سلام على ظهر خيله في “الطابق العاشر” من المؤسسة الحزبية..يعجَب عبد الله بشخصية الرجل..شابًا جميل الطلعة..مثقفًا أنيقًا وخطيبًا ساخرًا خفيف الظل
عرف كيف يستحوذ على الجماهير في الاجتماعات وفي مظاهرات أول أيار..
عرف كيف يسخر من “الباب العالي”..ويمسح به الأرض!
عرف كيف يكون عريس المظاهرات السياسية الحاشدة والمناسبات الوطنية الأخرى.
يقف الرجل على سيارة تندر في أرذل العمر..عليها سمّاعتان..ينفجر منهما الصوت أمامًا وخلفًا..ويكون أبو سلام سيد الميكروفون.
صوت الخطيب يملأ الفضاء في مدينة البشارة..متفائلًا ومبشرًا بمستقبل أفضل للشعب الباقي وطن آبائه وأجداده. لقد استحوذ على مشاعر الجماهير بأسلوبه في الخطابة الذي طعّمه بروح الفكاهة السياسية.
كان جيلنا ينتظر المناسبة القادمة..اجتماعًا شعبيًّا أو مهرجانًا خطابيًّا لسماع الخطبة القادمة..والاستمتاع بخطاب إميل حبيبي.
- وفي عروس الكرمل.. يستوي أبو سلام على عرش “الاتحاد” *
أبو سلام..مديرًا لـ”الاتحاد”..يجلس خلف طاولته “رئيسًا للتحرير”..ويطارده هاجس اسمه “الاتحاد”!”
يفكر الرجل كيف يأخذ بيد الصحيفة..ويتحدى العواصف..ويرتقي بـها وصولًا إلى شواطئ الأفضل..تحقيقًا لحلم مشتهى..
لا بد أن نخرج من القوقعة..لا بد من التجديد..فلنرفع راية التغيير!
ويعطي القائد الإشارة..لركوب البحر..واقتحام عباب الحاسوب!
ولا يلبث الحاسوب أن ينهض ملبيًّا نداء الحلم..ويدخل عالم “الاتحاد” من ” أوسع أبوابه ..فيحتضنه أبو سلام ..ويأمر بتوزيع أجهزته على غرف المحررين!
كل محرر وحاسوبه في “دولته المستقلة”
الشبكة العنكبوتية..أعجوبة الدهر..ومصيبة المصائب..ومنحوسة المناحيس..يقول رئيس التحرير!
إنها شبكة مدهشة!
يطلّ الحاسوب على الحاسوب..والجار على الجار..أما الحاسوب “الأكبر”..فيكون “عينًا” على الحواسيب الصغيرة المنتشرة في غرف المحررين..ويكون أبو سلام راصدًا وحارسًا وقائدًا وقبطانًا لسفينة الحواسيب وبحّارتها الميامين!
**
الأخطاء الشائعة..خط أحمر! *
من مكتب “الاتحاد” في شارع الحريري
يتصل أبو سلام..عاشق اللغة العربية.
؟ سلامات..متى نلتقي “لندردش” على فنجان قهوة
ويكون اللقاء على فنجان قهوة وسيجارة..وأحيانًا كعكة أحضرها أحد المحررين..بمناسبة عيد ميلاده الخمسين.
بلا شور ولا دستور..يقول الرجل:
أنا غير راض عن حالة الأخطاء في قواعد اللغة العربية والإملاء التي يقع فيها بعض المحررين في “الاتحاد”..فهذا أمر لا يليق بنا!
أريد أن نتعاون!
*
اعتاد إميل حبيبي أن يجمع هيئة التحرير يوميًا، وفي الساعة الخامسة عصرًا، لاستعراض العدد الصادر ذلك اليوم من حيث المضامين والترتيب والتبويب والتصميم الفني واللغة وترجمة المقالات (عن العبرية أو الإنجليزية) والأخطاء النحوية والإملائية والطباعية..إلخ..بالإضافة إلى التخطيط لموادّ اليوم التالي.
يعرض الرجل أمرين:
الأمر الأول: أن تكون معنا في بداية الاجتماع اليومي لهيئة التحرير..لتقديم الملاحظات حول الثقوب السوداء في الثوب الأبيض..ولفت الانتباه إلى الأخطاء النحوية والإملائية والطباعية في عدد ذلك اليوم.
أما الأمر الثاني: فأن تكرس ثلاثة لقاءات في الأسبوع لتقديم دروس في قواعد اللغة العربية للمحررين ولفت الانتباه إلى الأخطاء النحوية والإملائية الشائعة..وما إلى ذلك من الملاحظات العامة.
وفي الآن ذاته أريد أن تخصص لنا زاوية في “الاتحاد” للأخطاء الشائعة في اللغة العربية.
**
وكان لإميل حبيبي ما أراد.
وكانت اللقاءات مع رئيس التحرير وهيئة التحرير ودروس اللغة العربية التي استغرقت حوالي سنة.
وكان ميلاد زاوية “قوس قزح” التي امتدت على ثلاثين حلقة أسبوعية تقريبًا..والتي خصصت لبحث الأخطاء الشائعة في اللغة العربية وجُمعت في ما بعد وصدرت في كتاب “الأخطاء الشائعة في اللغة العربية”.
* الخطأ اللغوي..من كبرى الكبائر
يستحيل أن أنسى أبا سلام الذي كان يحرص على سلامة اللغة وعافيتها..حرصه على بؤبؤ العين!
والويل ثم الويل والثبور وعظائم الأمور للمحرر الذي يمسّ كرامتها! كان بصوته الأجشّ الصاعد من أعماق الصدر..يقيم القيامة فوق رأس عضو هيئة التحرير إذا “اقترف” ذنبًا لغويًا يسيء إلى طهارة لغتنا العربية..قدس أقداس هُويتنا القومية!
هكذا كان أسلوب عجّاج نويهض في التعنيف والتوبيخ كما يفيد بعض الذين يعرفون ما لا نعرفه. وعجّاج نويهض مؤرخ وكاتب وأديب ومترجم (1897-1982)
لن أنسى زوم “البهدلة” التي انصبّت، ذات مرة، فوق رأس عضو هيئة التحرير..بجريرة ارتكابه “ذنبًا” لُغويًا لا يغتفر اعتبره أبو سلام من كبرى الكبائر!
! أموت وفي نفسي شيء من الهمزة*
لقد دأب إميل حبيبي على الاتصال للاستفسار عن كلمة ما والتأكد من سلامتها وعافيتها لغةً وإملاءً وصرفًا ونحوًا وترجمة..إلخ
وأكثر ما كان يشغل باله الإشكال في كتابة الهمزة ومواقعها “الجغرافية” من الكلمة..وإلحاحه في ضرورة كتابة مقال (أو مقالات) يكون مرشدًا ويشكل بوصلة في كتابة الهمزة “أم الخطايا” الإملائية..
وظلت “الهمزة” هاجسًا يطارد الرجل في صحوه ومنامه.
تعرفون قصة “حتى” التي حتحتت قلوب النحاة..وشيّبتهم!
تنسب لسيبويه العبارة “أموت وفي نفسي شيء من “حتى”!
أما أبو سلام فقد غاب عن هذه الدنيا وفي نفسه شيء من “الهمزة”!
رحم الله صاحب “المتشائل” الذي انتقل إلى الرفيق الأعلى..وترك “الهمزة” تسرح وتمرح..حرة طليقة..
فما زالت “الهمزة” أمّ الغِوايات للخطايا الإملائية!
*أين نحن من هذا المشهد الذي ينذر بحلول كارثة لغوية؟
وبعد..
لقد فتحت عينيّ على “الاتحاد”، ورافقتها ورافقتني منذ أكثر من خمسة عقود وحتى هذه اللحظة، واعتدتُ فتىً، أن أجد فيها حاضنة فكرية دافئة وبوصلة أدبية وثقافية وسياسية، تربّت عليها واهتدت بهديها أجيال كاملة. ولنا معها حكايات تفيض حنينًا إلى الماضي الجميل..ولا نريد للصورة الجميلة أن تخدش وأن تكون غير ذلك. إن “الاتحاد” تتحمل مسؤولية استثنائية..وأيّة مسؤولية لو تعلمون!
نحن ننادي بالحرص على لغتنا القومية وهُويتنا الثقافية ونتصدى لمحاولات طمسها، ونشنّ حربًا شعواء على المؤسسات الرسمية التي تحاول أن تعمل على كافة الصعد وبشكل منهجي، لتشويه هذه اللغة وإحداث الغربة بينها وبين أهلها ولا سيما الأجيال الصاعدة!
هذه هي “الرسالة” التي تحملها هذه المؤسسات..وهذا هو”دورها”
تكاد اللغة العبرية تصبح “لغة الأم” التي تحتل المشهد اليومي..وتغيّب لغتنا القومية..وهُويتنا الثقافية!
وهنا..ليسأل كل منا نفسه السؤال التالي:
أين نحن من هذا المشهد الذي ينذر بحلول كارثة لغوية؟..وما هو دورنا الذي يتوجب علينا أن نضطلع به لمنع الكارثة؟
**
(من كتاب “بين مدينتين- سيرة ذاتية”- الطبعة الثانية)