تعرفت على سيدة أمريكية لطيفة جداً وكريمة غاية الكرم من خلال “النادي العالمي للسيدات” في كوبنهاغن. لم تدخر هذه السيدة وسعا في مشاركتي في أية معلومة تفيدني، كدعوتي للانضمام إليها للمشاركة في معرض هنا أو هناك في الفترة التي كنت فيها أرسم على البورسلين والزجاج.
كنا أنا وزوجي ذات مساء من بين المدعوين إلى العشاء في بيتها الجميل بمحاذاة شاطئ خليج “كوي” (جنوب كوبنهاغن). وصدف أن كنت أعاني من آلام في الظهر، فأتتني بلصقات من كل صنف ونوع، ثم رأيتها تنظر إلى زوجها فجأة وتقف من مكانها ويقف هو قبالتها وتطلب مني أن أقف في الوسط. وقفت ذوقاً، رغم الإحراج، ولم أعرف أي لعبة تنتظرني، إلى أن قالت: “سنصلي! وسوف يتحسن وضعك وتزول آلامك”. تذكرت أنها وزوجها ذكرا قبل ذلك بلحظات أنهما من منطقة في جنوب الولايات المتحدة يُطلق عليها لقب “حزام التوراة”. تمالكتُ نفسي ولم أسمح لضحكتي أن تنطلق حين تذكرت ذلك، فالمنطقة التي نسكن نحن فيها تقع شمال كوبنهاغن يُطلق عليها اسم: “حزام الويسكي”، دلالة على غنى المنطقة، مقارنة بالبيرة التي يشربها عموم الشعب الدنماركي منذ 400 عام، كبديل عن المياه الملوثة التي عانت منها المدينة طويلاً، وتلك حكاية أخرى.
بما أن زوج هذه السيدة، ليندا، عمل كممثل لشركة أمريكية تبيع أجهزة تتعلق بتنقية المياه، وكان قد أرسل إلى الدنمارك لهذا الغرض، فقد كان من نتائج ذلك وجود حوض جاكوزي في الحديقة المطلة على البحر.
بعد فترة، وكنا في فصل الشتاء والثلج كثيف، اتصلت “ليندا” تدعوني لتناول وجبة غداء، على أن يسبق الغذاء جلسة استرخاء في الجاكوزي، تنفيذاً لوعد كانت قد قطعته على نفسها أثناء الأمسية إيّاها.
ذهبت بعد تردد، فمن المجنونة التي تحمل ثوب استحمام (مايوه) في حقيبة يدها وهي ترتدي معطفاً من الفرو درءاً لبرد الدنمارك المزعج حين يقرر أن يهاجمها من سيبيريا في شهر شباط، لتجلس، في الحديقة، في المايوه؟
جميل جداً… ذاك الشعور بأنك في حوض مياه دافئة يتصاعد منها البخار، بينما الثلج من حولك على مدّ النظر، وقد تجمدت مياه الخليج، وباتت الطيور التي تكوّرت وتضخم حجمها (من الله) دون الحاجة لمعطف صوف أو فرو، تتمختر على سطح البحيرة الذي بدا كسطح مرآة أملس أغبر.
فجأة، وقع نظري على جذع شجرة في زاوية الحديقة، وبان من تحت الثلج طرف شريط أصفر عُقد على الجذع. سألت مضيفتي: “ليندا، ما هذا الشريط الأصفر على الشجرة؟” (خفت بيني وبين نفسي أن تقول إنه ذاك الـ”ييلو ريبون”، تيمناً بعودة المحاربين الأمريكيين إلى الوطن سالمين، ذلك أن لقاءنا هذا تمّ بعد سنة تقريبا من غزو العراق).
أتى جواب مضيفتي مع رفع الرأس وإمالته قليلاً: “إتس إي ييلو ريبون…….”.
وهنا ولّعتُ، ليس بسبب حرارة ماء الجاكوزي، لكن بسبب ذلك الشريط الأصفر وهذا الرأس المائل لمضيفتي.
بدأت أغلي وسألتها عن سبب ذهاب جنودهم إلى العراق، يا ترى؟ فلأي هدف؟ ولمن سيثأرون؟ وممّن بالضبط؟
باختصار، ازدادت حدّة نقاشنا، وتكرّر وقوفنا في الجاكوزي للحظات وعودتنا للغطس فيها لإكمال الكباش الذي تعالت فيه أصواتنا بين البخار والثلج كديكين متناحرين، إلى أن قلت لها: الحقيني تَ نحكي!” وأخرجت قدمي من الماء الساخن وهي تحذو حذوي وخببنا على الثلج ونحن نلعلع، إلى أن دخلنا البيت وعدنا لحشمة تليق بالنقاش…..
فجأة، استأذنت مضيفتي وهي متوترة لتغيب لحظة، فسألتها بين المزح والجد إن كانت تخفي لي مفاجآت من نوع الشريط الأصفر… رمقتني بنظرة حملت مزيجاً من الضيق والاستهتار، وعادت ومعها الـ “لاب-توب”، وفتحت صفحة “غوغل-ماب”، وسألتني: “هل تعرفين من أين أنا؟”
قلت بابتسامة صفراء: “من حزام التوراة، واضح!”
أشارت مضيفتي إلى موقع على الخارطة، وقالت بين صرخة مكبوتة ودمعة مفضوحة: “أنا من هنا. من أوهايو”.
ثم فتحت صفحة أخرى من موقع الخرائط ذاك لتريني موقع بيتها بالضبط، بل وبيتها نفسه، قائلة: “أنا من مزرعة. أقرب جار لي يبعد عني كذا وكذا ميلاً، وعليّ أن أقود السيارة مدة كذا وكذا للوصول إلى أقرب قرية أو تجمع سكاني حضري. أنا لم أحمل جواز سفر من قبل، في حياتي كلها، ولم أخرج من الولايات المتحدة يوماً. قدومي إلى هنا كان أول سفرة لي إلى الخارج”.
ثم بصوت متقطع والدموع تنهمر من عينيها سألتني:
– “ماذا تريدين مني؟ أنا لا أعرف حتّى أين تقع العراق”.
– “أريد منك شيئاً واحداً فقط يا ليندا. أريدك أن تلفّي شريطاً لكل من سقط في العراق، لكل من تيتم ومن ترملت ومن ثكل ابناً أو ابنة، ولكل معاق ولكل جريح من أبناء هذا البلد. لا يهمني لون الأشرطة، سوداء تعكس مأساتهم ربما، أو بيضاء تذكرك أنهم لم يحملوا السلاح، وأنهم هم أيضاً لا يملكون جواز سفر، ولم يأتوا إلى بلادك غازين، وأن عدد ضحايا حربكم عليهم والعقوبات التي سبقتها، يفوق عدد القوات التي أتت من آخر الدنيا إليهم غازية معتدية مدمّرة، بكثير، كثير، كثير. قد لا تكفي أشجار حديقتك لذلك الغرض. بل أن أشجار غابات الدنمارك كلها، قد لا تكون كافية”.
ها قد مرّت 10 أعوام على غزو العراق، وسنتان على “الربيع العربي” الذي حدث (بالصدفة) بعد 10 أعوام من وقوع حادثة 11 سبتمبر، الذي حدث (بالصدفة) في نفس تاريخ يوم ميلاد الرئيس السوري، بشار الأسد! ولا بدّ أن “صديقتي” وأمثالها لا يزالون لا يعرفون عن بلادنا شيئاً، لكنهم رغم ذلك، ينتخبون رئيساً يريد أن “يحقق السلام” في الشرق الأوسط، (و”يقيم دولة فلسطينية” لم يبقَ فندق في العالم إلا وعقد اجتماع من أجل حلّها؛ هذه المعضلة)، ويُعلّم العرب “الديمقراطية”.
(ملاحظة: كنت قد كتبت ما ورد أعلاه عن هذا اللقاء في أوراقي الخاصة في نيسان 2004، وتذكرته في ذكرى مرور عشر سنوات على الحرب على العراق سنة 2013، وأنشره اليوم (كانون الأول 2020) على عتبة مرور عشر سنوات على “الربيع العربي” هذه المرة، وكل ما أفرزه من فقر وتجهيل وتجويع وأمراض وتشرذم وتطبيع).