مع شح أو النقص الكبير في الشهادة الشفوية للنكبة الفلسطينية، التي أدت إلى نزوح أكثر من 750 ألف فلسطيني عن ديارهم، ولجوئهم إلى مخيمات الشتات التي وصل عددها لأكثر من 60 مخيما في الأردن، ولبنان، وسوريا، والضفة الغربية، وغزة هاشم، أخذت على عاتقي وبصورة شخصية، أن أجمع أكبر عدد ممكن من الشهادات الشفوية، ولذلك باشرت العمل منذ أكثر من عقدين من الزمن، استطعت خلالها من جمع الكثير من الشهادات التي سلط المنكوبون الضوء على مفهوم النكبة، وحاولت جاهدا دحض مقولة بن غوريون التي رددها “أن الكبار سيموتون وأن الصغار سينسون”، وخلال هذه السنوات التي سافرت فيها إلى العديد من المخيمات، في البلاد وخارجها، التقيت عشرات بل مئات المنكوبين، وجميعهم كانوا يرددون أننا وإن متنا فلن ينسى أولادنا، فنحن نزرع فيهم حب الوطن ومسقط الرأس، نحن نعلمهم أننا نحن أصحاب الأرض، وأصحاب البيت، وما هذا اليهودي الذي جاء من وراء البحار، يحمل حقيبة ملابسه ما هو إلا مغتصب، اغتصب الأرض والدار، وتنكر لحقنا في الوجود.
وخلال مسيرتي في البحث عن حقيقة النكبة الفلسطينية، وسماع الروايات المتعلقة بها، انكشفت لي حقائق ووقائع لم تخطر على بال بشر، وكلما زاد يقيني أن الشعب الفلسطيني تعرض لمؤامرة وإذا شئنا أسميناها خيانة شارك فيها المجتمع الدولي برمته، وعلى رأسه بريطانيا التي كانت منتدبة على فلسطين، فقد ظهر تآمرها على الشعب الفلسطيني من عدة جوانب، أولها غض الطرف عن تصرفات العصابات الصهيونية، وهجومها على القرى الفلسطينية، وقتل وذبح من يجدونه أمامهم، والأمر الثاني غض الطرف والسماح لعشرات ألاف اليهود بالقدوم إلى فلسطين، وبناء مستوطنات والسكن فيها لرفع نسبة الفارق الديموغرافي، ولا ننسى الولايات المتحدة التي كان لها ضلع كبير في هجرة اليهود إلى فلسطين، ففي فترة ولاية الرئيس ترومان منع هجرة اليهود إلى أمريكا بهدف تشجيع الهجرة إلى فلسطين.
هذا الكتاب هو الرابع من سلسلة الشهادات الشفوية، وسترون الشهادات كما هي، فمنها أبقيتها كما هي بلسان اللهجة العامية، لكل قوم لهجته، وهو يتميز عن الكتب التي سبقته، بما كلفني من جهد على كافة الأصعدة، وخاصة أن الكثيرين ممن قابلتهم قد انتقلوا إلى جوار ربهم قبل أن يروا هذا الكتاب النور، وفي الحقيقة أنني واجهت مشاكل وصعوبات كثيرة في إقناع المهجرين لتسجيل شهاداتهم، حتى أن بعضهم طلب أن أحذف الجملة الفلانية من المقابلة، لأنها تذكر اليهود ومنهم من رفض تسجيل شهادته خشية ملاحقته من قبل الصهاينة، وفي بعض الأحيان كنت أسمع أن العصابات اليهودية قالوا لنا ابقوا في دياركم ولا تخرجوا، وهذه نوع من تبييض وجه العصابات التي عاثت في الأرض فسادا وخرابا.
ومما استنتجته من خلال توثيقي للشهادات الحيية الشفوية، أن أصحاب رؤوس الأموال وميسوري الحال، هاجروا قبل سقوط البلد التي كانوا فيها، فمثلاً ورد في كتاب “التطهير العرقي في فلسطين” لمؤلفه إيلان بابيه في 12/1/1948 أبرق زعيم محلي يُدعى فريد السعد، مدير البنك العربي في حيفا وعضو اللجنة القومية المحلية، إلى الدكتور حسين الخالدي سكرتير الهيئة العربية العليا، قائلا بيأس :”من حسن الحظ أن اليهود لا يعرفون الحقيقة”، وكانت ((الحقيقة)) أن النخبة الحضارية في فلسطين، انهارت بعد شهر من القصف اليهودي العنيف والاعتداءات، لكن اليهود كانوا يعرفون تماما ما يجري، وفي الواقع كانت الهيئة الاستشارية تعرف جيدا أن الأغنياء والميسورين غادروا في كانون أول 1947، وأن المدينة لم تكن تصل إليها أسلحة عربية، وأن الحكومات العربية لم تكن تفعل أكثر من شن حرب كلامية حماسية، عبر الأثير لإخفاء تقاعسها عن العمل، وعدم رغبتها في التدخل لمصلحة الفلسطينيين. وأوردت بعض المصادر التاريخية عن بن غوريون الذي وصف القتلى اليهود الذين قُتلوا في كانون ثاني 1948 بأنهم ضحايا هولوكوست ثانٍ، وكان قد قتل 400 مستوطن يهودي، فيما قتل 1500 فلسطيني نتيجة القصف اليهودي العشوائي لقراهم وأحيائهم، وكانت محاولة تصوير الفلسطينيين، وسيلة في حملة استعملت لضمان عدم ضعف عزيمة الجنود اليهود عندما يتلقون الأوامر، وكان الشاعر القومي اليهودي ” ناتان إلترمان” قد شبه المواجهة مع الفلسطينيين قبل وقوعها، بالحرب ضد النازية.
مثلك أيتها الأمة البريطانية الشجاعة التي وقفت وظهرها إلى الحائط عندما كانت أوروبا وفرنسا يغمرهما الفساد وحاربت على الشواطئ، وفي البيوت، وفي الشوارع. سنحارب على الشواطئ، وفي البيوت، وفي الشوارع. الشعب البريطاني المنتصر يهدينا التحية في معركتنا الأخيرة.
كما ويخلص القارئ لكتابي هذا أن بن غوريون وعصاباته كانوا يخططون لتطهير عرقي للفلسطينيين مع سبق الإصرار، ففي 13 أيلول/سبتمبر 1948، طلب رئيس الحكومة الإسرائيلية دافيد بن- غوريون الإذن لتدمير 14 قرية في منطقة اللد، وقد جاء الطلب باسم الجنرال تسفي أيلون، قائد الجبهة الوسطى .
ومما جاء في كتاب (ولادة قضية اللاجئين الفلسطينيين) لبيني موريس، أن بن غوريون طلب من اللجنة الإذن خطيا، وأن يكتب ما قاله كل ( وزير)عضو من أعضاء اللجنة المختصة، وسيمهل اللجنة ثلاثة أيام للرد، وفي حالة عدم الرد يعتبر موافقة، وهكذا أصبحت هذه القرى أثر بعد أن كانت عين، وتشتت أهلها في الأردن وغيرها من الدول العربية .
المؤلف: الكاتب الإعلامي سمير أبو الهيجاء
عين حوض/ حيفا — فلسطين التاريخية
Samer.hayja@gmail.com