قراءة في كتاب “رسائِل إلى قمر” – حسن عبادي

بدأت بكتابة ونشر مقالة أسبوعيّة بداية عام 2016، وغالبيّتها “قراءة في كتاب”، كانت مقالتي الأولى بعنوان “آن الأوان لنتجرّأ على النصوص”، وللمرّة الأولى أشعر بأن مقالتي “مجروحة” عند التطرّق لكتاب “رسائل إلى قمر” شظايا سيرة لصديقي الأسير حسام زهدي شاهين (224 صفحة، الصادر حديثًا عن دار الشروق للنشر والتوزيع، كتب المقدّمة صديقي المقدسيّ الكاتب محمود شقير)، وجاء على الغلاف: “حبيبتي قمر،،، إليكِ ولكلّ أبناء جيلك بعضًا ممّا علّمتني الحياة، شظايا تجربة…شظايا سيرة. أضعها بين يديكِ، خذي منها ما يحلو لكِ، واتركي الباقي لمن يريد“.

 

كتب حسام في المدخل: “لا يوجد قيد واحد على العقل لم يصنعه الإنسان بنفسه، وكلّما ازدادت القيود، ازداد الإنسان عزلة، ووقف موقف الدفاع والتصارع مع الآخرين، وكلّما قلّت القيود، ازداد الإنسان انفتاحًا، ووقف موقف النديّة والتكامل مع الآخرين”، وها هو حسام ينجح في فكّ تلك القيود ليحلّق عبر القضبان بنديّة من خلال قمره.

 

التقيت بحسام للمرّة الأولى يوم 20 حزيران 2019 في سجن الجلبوع الواقع منطقة بيسان؛ تناولنا شظايا تجربته، قيم فلسفيّة أدبيّة تزداد قيمتها خلف القضبان، قصّة فقدان الخصوصيّة لأنّ الحريّة هي الأساس، قيمة الأشياء الصغيرة التي اكتشفها داخل السجن بسبب الحرمان. تلك الأمور الصغيرة تكبر في ذهن ومخيّلة الأسير القابع في زنازين الاحتلال، حرمانه من لقاء أحبّته وفقدان أعزّاءه دون وداع، حرمانه من احتضان وتقبيل “قمره” أربعة عشر عامًا. دوّنت على صفحتي انطباعاتي الأوليّة وعنونتها: “رسالة إلى “قمر”!

حين التقيته المرّة الثانية يوم 15 آب 2019 في سجن “مجيدو”، حدّثته عن لقائي وزوجتي سميرة مع قمر، حمزة، محمد، شيرين وعماد في مطعم الفلّاحة، حدّثني بدورِه عن قمر التي كانت آخر صورة له قبل الاعتقال يوم 28 يناير 2004 ،حينها عصبوا عينيه وهي بحضن والدتها شيرين “بتطلّع عليه”، وما زالت الصورة مطبوعة في مخيّلته تمدّه بالأمل، استفسر عن دقائق الأمور حول قمر، فكرها وتصرّفاتها فتنهّد قائلًا “لقطت الصنّارة”!

في لقاءاتنا المتتالية حدّثني عن مشروعه القمريّ وتحديثاته، وكم كنت سعيدًا حين وصلتني نسخة الكتاب مساء الجمعة  11 أيلول  إلى  حيفا ليتحقّق حلمه بتحليق رسائله في فضاء حيفا ومن ثمّ في ربوع الناصرة. قرأت الرسائل ثانيةً وثالثة، وجدتها خواطر وومضات، سيرنصيّة وشظايا سيرة، عُصارة تجربة حسام، بطولِها وعرضها، وزبدتها نصائح لقمره وأبناء جيلها، فحسام يعوّل على جيل الشباب ليشدّ الهمم وينهض بقضيّتنا إلى آفاق بعيدة ليحققّ حلمنا بعد استخلاصه عِبر وتجارب فشل جيلنا نحو غدٍ أفضل.

أخذتني مقدّمة صديقي الكاتب محمود شقير، نصير الأسرى وعرّابهم، وكنّا  قد تحدّثنا عن حسام وكتابه قبل صدوره، وأتّفق معه في ما كتبه حول حسام والكتاب، أهميّة سلاحيّ العلم والمعرفة، نصرة المرأة ودورها الرياديّ في طريق التحرّر، نصائح حسام العمليّة لجيل المستقبل نحو احترام التعدّديّة وعدم التعصّب والانغلاق، وانتصار حسام على سجّانه “بالصبر والمثابرة والجد والاجتهاد والجلد، بالصمود الأسطوري وبالتأمل العميق والتفكير والكتابة”.

يتناول حسام أهميّة الرسالة في حياة الأسير، رسالة يستلمها خلف القضبان ليعيشها بحلوها ومرّها، هي “باروميتر” العلاقات الإنسانيّة بواسطتها يقرأ الأسير حرارة المشاعر المتبادلة أو برودتها، أداة لقياس المسافات الروحانيّة مع الأحبّة، ورسالة أخرى “يهرّبها” عبر القضبان لتشكّل متنفّسًا له، يحلّق من خلالها في فضاء الحريّة المشتهاة.

يتحدّث حسام عن حياة الأسر والمعاناة اليوميّة التي يعيشها الأسير، عن “الفورة” وأحاديثها وطقوسها، العزلة بحسناتها وسيّئاتها، الأحلام الصغيرة والكبيرة، أهميّة المُكاشفة، المُحاسبة والمُساءلة، مقت المزاودات الشعاراتيّة الرنّانة التي لا تُسمن ولا تُغني عن جوع، حساب الذات و”معاناة برش” والعلاقة الجدليّة بينهما حيث صارا رفاق درب وبينهم “عِشْرِة عُمُر”! وكذلك الأمر في نصّه القاسي والمؤلم “قسوة وتعذيب”.

يتناول علاقة الأسير بأهله ومعاناتهم، طريق الآلام التي تعبرها الأمّهات في طريقهن لكلّ زيارة، يؤرّخن حياتهن من زيارة لأخرى، صعوبة البعد والفراق والحنين، كما جاء في نصّه القاتل بعنوان “عبير ونهر الموت البطيء”، وصعوبة فقدان عزيز دون وداع!

حسام نصير المرأة، والأمر عنده بنيويّ متجذّر بعقليّته ومفاهيمه، يؤمن أنّه بالمرأة تنهض الأمم. ليس صدفة أنّ الإهداء لحبيباته الثلاث، لثلاث نساء؛ أمّه أمنه، “ابنته” قمر، وأخته نسيم، والأمر ليس مفهومًا ضمنيّا في مجتمع ذكوريّ تحكمه القيود والتقاليد وسلطة الرجل، أن تسلّط الأضواء على دور نساء يُحتذى بتضحياتهن، مثابرتهن ونجاحاتهن، كلّ من موقعها؛ منهن، على سبيل المثال لا الحصر، د. ليلى غنام – محافظ محافظة رام الله والبيرة التي منحها حسام شرف نصّه “امرأة  بألف رجل” فكتب: “ها هي د. ليلى غنام بأنوثتها المصقولة بالوعي والمعرفة تحطّم منظومة القيم والعادات والتقاليد المعيقة للتقدّم والنهضة…إنسانة مجدّة ومجتهدة ومثابرة، ولديها من الميزات المهنيّة، والجاذبيّة “الكارزماتيّة” ما يجبرنا على أن نرفع لها “القبّعة” احتراما وتقديرا”. كذلك جهاد أبو زنيد التي وصفها حسام “مناضلة من القدس” متحدّثا عن عطائها وتضحيتها من أجل القدس وأهلها. امرأة أخرى هي سهى بشارة التي حظيت بنصّ “نجمة في سمائنا” وصوّر شعوره حين عانق كتاباها “مقاومة” و”أحلم بزنزانة من كرز” في معتقل الجلبوع، تلك التي سلّطت الضوء على دور المرأة العربيّة المشرّف في النضال الوطني ضد الاحتلال. رمز آخر هي المحامية بثينة الدقماق التي وسمها حسام “حمامة زاجلة” لأنها محامية من نوع آخر وغير تقليديّة بصدقها، تضحيتها، نجدتها للمعتقلين وجسر المحبة الذي افتتحته مع الحركة الأسيرة. امرأة أخرى هي نجوى عودة التي وصفها حسام “إمرأة على جبل أحد” التي ما زالت تقبض على جمر الثورة وترفض التزحزح عن جبل أحد لتتقاسم الغنائم، علما أن غالبيّة الذين ينهشون الغنيمة، لم يكونوا أصلًا على الجبل! نعم أيّها الحسام، أوافقك أنّ “الوطن في محنة ويحتاج إلى من يحميه ويعطيه لا إلى من يأخذ منه”. رمزُ آخر هي الدكتورة الغزيّة منى الششنية التي نحتَها حسام “الزيتونة الصابرة” وكتب فيها “إن منى كأي امرأة فلسطينيّة زيتونة صابرة محتسبة تؤوي في جذعها ألف مقاتل، تفيض كالأرض لبنا وعسلا وتطعم صغارها إذا ما أجدبت، رغم الحصار والقصف والدمار، إلّا أنّها أثمرت كباقي نساء فلسطين الصابرات”. امرأة أخرى هي المقدسيّة سلوى هديب “سلوى التي تستنبت الأمل من الألم”، ملهمة الأغنية الثوريّة زمن الانتفاضة “إيد بتخلع جواسيس وإيد بتزرع حريّة”.  وأخرى؛ فدوى البرغوثي التي وصفها حسام “وزيرة خارجية بلا وزارة”، شخصيّة قياديّة كارزماتية، تمتلك من القدرات والكفاءة ما يؤهلها لتأدية أصعب المهام ولولاها لطوى مروان زمن السلطة والنسيان والخذلان، غير آبه برمزيّته وشعبيّته، “عرفت كيف ترتّب أهدافها، وأدركت أن تعدّد الأهداف في ذات الوقت يشتّت الجهد ويورث التردّد”.

وأخيرًا، “المرأة” مع ألّ التعريف؛ نسيم، شقيقة الأسير الكاتب، تلك التي تحملّ ملف حسام الشاق برحلة سيزيفيّة وعرة في طريقه للحريّة، التقيتها مرّة واحدة لثلاث دقائق، ولكن سأظلمها إن كتبت عن دورها في هذه  القراءة، أبكتني حين كتبت: “آه يا أخي كم أتمنى أن أشتمّ رائحتك ولو لمرة واحدة بعد كل تلك السنين اللعينة” فتستحقّ أكثر من ذلك، حتمًا سأوفيها بعضًا من حقّها في فرصة قريبة.

نعم، صدق فريدريك انجلز حين قال :”تحرّر المرأة معيار تحرّر المجتمع“.

حسام يؤمن بأنّ للوطن جناحين؛ ينتظر عودة اللاجئين لكلّ فلسطين، عبّر عن إيمانه بعفويّة وتلقائية انسيابيّة دون تأتأة في رسالة التعزيّة باسم الحركة الأسيرة حين غادرتنا الفنّانة النصراويّة ريم بنا (تزامنًا مع يوم ميلاد حسام، أطال الله بعمره) في نصّ عنونَه “مناسبة حزينة” ليرسمها بعروس فلسطين التي يحلم كلّ ثائر بعروس مثلها. كتب حسام في إحدى رسائله إلى حبيبته قمر بعنوان “الجدّة نجلة حارسة الأحلام”: “وقد نجحت إرادة فلسطينيّي الداخل بترتيب الأحلام التي لم تهرب منهم بفعل تقدّم العمر، لأنها بقيت محفورة على حجارة بيوتهم الكنعانيّة العتيقة، ومختبئة في ثنايا أرواحهم المثخنة بجراح وأوجاع زمن النكبة، الزمن المسروق من عمر فلسطين بأيادي الاستعمار والفساد، فعيشي أحلامك الفرديّة يا حبيبتي والجماعيّة، ولا تسمحي لأحد بأن يسرقها منك، وتعلّمي من الجدّة نجلة كيف تستطيعين حراستها وحمايتها”، يصوّر بانسيابيّة باهرة نجاح نجلة الحيفاويّة/النصراويّة بالبقاء والتمسك بتراب الوطن، قابضة الجمر بانتظار من انتكب من الأهل، ليطمئننا حسام بثقة العارف: ” بالله عليك يا بحر، ما الذي حلّ بهم؟ هل هم بخير؟ فسمعته يصرخ من بعيد، عائدون يا نجلة، عائدون يا حيفا!”. حين قرأتها عُدتً إلى صبيحة يوم الجمعة 11 آذار 2016؛ تجوّلتُ وصديقي الراحل ابنَ حيفا الشاعر أحمد دحبور الذي ولدَ في حيِّ وادي النسناس الحيفاويّ عام 1946 وهُجِّرَ منها في النكبةِ حين كان في الثانيةِ من عمرِهِ، جلسنا لنشربَ القهوةَ في أزقّة وادي النسناس مع أهلِها، متأثّرًا بتلك اللحظة أخذ يسترسل بأبياتِ شعرٍ من قصيدته:” يا طيورًا طائرهْ … يا وحوشًا سائرهْ … بلّغي دمعَ أمي أن حيفا لم تزل حيفا … وأني أسأل العابرَ عنها في ربوع الناصرهْ“. وها هي الجدّة نجلة دانيال تحتضن “رسائِل إلى قمر” في ربوع الناصرة لتبلّغ قمر وأبناء جيلها أنّ حيفا لم تزل حيفا.

يؤمن حسام بأهميّة  علاقات الصداقة مع الدول العربية والأوروبيّة ودورها في مساندة القضيّة الفلسطينيّة (شغل قبل الاعتقال سكرتير العلاقات الدولية لمنظمة الشبيبة الفتحاوية)، وتناول تلك العلاقة في نصّ عنونَه “كاترينا وأنا وثالثنا الشيطان” التي حملت راية فلسطين وراحت تدافع عن حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وتقرير المصير في كل المحافل الدوليّة التي تشارك فيها و”حملت في قلبها النابض بالإنسانيّة نبضات القدس وابتهالات سكانها المكلومين”.

كذلك المناضلة الأمميّة لويزا مورغانتيني التي أطلق عليها حسام لقب “إشبينة فلسطين” التي ما زالت تدافع عن فلسطين وتخدم شعبها “وهي تحلم من فوق قمة الألب بأن يأتي اليوم الذي تنال فلسطين استقلالها وينال شعب فلسطين حريته وكرامته”.

امرأة  أخرى هي النرويجيّة آينكن هاتيلد التي حظيت بنص “أصابع اينكن…ما زالت تلامس روحي” (حين قرأت النص أعادني للقائي الأول بحسام، كتبت على أثره في صفحتي: “لهذا يصبح للقائه بغريب مثلي نكهة مغايرة ذكّرته بأنكين هوتفلدت النرويجيّة، عرفها قبل أسره وبعد مضيّ سنوات سُمح لها بزيارته وحين التقته خلف شِباك السجن مدّت يدها لمصافحته لكنّ الحاجز المشبّك حال دون ذلك، تلامست أصابعهم فارتبك حسام وسألته أنكين بعفويّة ما سبب ارتباكه؟ أجابها أنّها المرّة الأولى منذ اعتقاله يلامس بشرًا “غريبًا” وحتى الأهل لا يستطيع ملامستهم واحتضانهم فصاحت به “touch”، “تاتش”، “touch”، “تاتش”، ممّا لفت انتباه السجّان فانقضّ عليهما موبّخًا ونقلها لغرفة ذات حاجز زجاجي دون “شبك”!) وتحدّث فيه عن الصداقة وأهميّتها.

لفت انتباهي ما جاء في نص حساميّ بامتياز: “أحرجتني كثيرًا عندما سألتني سؤالًا عجزت عن الإجابة عليه بوضوح وشجاعة.  أخبرتني أنها ذات مرّة اجتمعت مع أحد وفود شبيبة فتح التي زارت النرويج، وأثناء حديثها اليهم سألتهم عنّي، وصُدمَت لدى اكتشافها بعدم معرفتهم مَن أكون، فقالت لهم بغضب: كيف لا تعرفون واحدا من أهم الأشخاص الذين ساهموا في بناء وتأسيس العلاقة بين شبيبتكم والشبيبة الأوروبية على وجه العموم؟ وحاليا يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي لأنّه  تحمّل مسؤوليته الوطنيّة وهو على رأس عمله، ومن الغريب أن يؤدي اعتقاله إلى نسيانه بدلا من حماية ذكراه وأنتم حركة تحرّر. يجب عليكم أن تدرسوا تاريخكم جيدا قبل المشاركة في هذه النشاطات”. جاءني ما قاله الغزالي: “لا تتألّم إذ أنكر أحدهم فضلك عليه!!!فأضواء الشوارع تُنسى في النهار!!!“. هذا هو حال شرقنا. والله صعبة يا حسام.

وأخيرًا؛ كتب لي حسام في الإهداء: “كلّ يوم يمضي من أعمارنا يموت ويُدفَن في الماضي، ولا نفوز به إلّا بما كسبنا من حُبّ، وحياة، وذكرى جميلة. هذا ما منحني إيّاه صديقاي حسن وسميرة، فلهُما وللكرمل الذي يسكُناه ويسكُنني كلّ المحبّة والوفاء. حسام زهدي شاهين”.

شمس الحريّة تليق بك وتتوق لك صديقي حسام.

حسن عبادي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*