إلى العزيز د. سليم مخولي حامل الحقيبة التي تحوي كثيرًا من الأسرار الإبداعية. وفي هذه الحقيبة طموح لمعانقة المجد والإحاطة به من الجهات الأربع!
سأل الطالب الفتى أستاذه الشيخ:هلا حدثتنا-أطال الله بقاءك – كيف كان ذلك؟
فردّ الأستاذ بكلمات فيها الكثير من الضباب: يقول أهل العلم –والله أعلم- هي أقانيم ثلاثة: قوس قزح يتدفّق شلال ألوان يخلب الأنظار والألباب..ومحبرة بلورية تنبع ماءً وردًا يحيي الأرض اليباب..ورسالة شخصية جدًا وسرّية للغاية..ختامها يضوع مسكا..من العمّ “ابن سينا” أبي الطب وصاحب كتاب “القانون في الطب”
* الإحاطة في أخبار غرناطة، مَهمّة مستحيلة
أيها الإخوة والأخوات
لا أسمح لنفسي أن أدعي أنني أعرف جميع الأسماء.. في هذه الكوكبة الطيبة التي نحتفي بها هذا المساء. ولا أخفي عليكم أن إيقاع عصر العولمة وانفجار المعلومات وطوفان التكنولوجيا الذكية وجبال الهموم والاهتمامات والمسؤوليات المترامية الأطراف.. جميع هذه الأمور تؤدي إلى استحالة “الإحاطة في أخبار غرناطة”..وخاصة في هذا الوطن الاستثنائي الصغير الذي يغصّ بثروة هائلة ممّا يسمى بـ”راحة البال”.. والهدوء والطمأنينة..ويسعى جاهدًا لتصدير ما يفيض عن حاجته من هذه “الخيرات” العميمة.. إلى شعوب العالم قاطبة!
أتراني أبالغ؟ ربما..
وفي مثل هذا المشهد العبثي الذي لم يخلق مثله منذ عهد عاد.. تداهمنا “الأمّيّة الثقافية” أحيانًا..فيُسقط في يدنا.. ويُلقى القبض على الملك عاريًا..وتحشره “الأمّيّة” في الزاوية.. وتُريه كم هو صغير صغير في حضرة عصر انفجار المعلومات الكبير!
* أول الغيث!
لقد كان استعمال الألوان المائية نوعًا من البذخ الذي يتحقق في الأحلام الجميلة!
كنا نرسم على دفاترنا بالرصاص الأسود طابات سوداء..ورحم الله الأستاذ الطيب، طيب الذكر، ميشيل حداد..مُعلمًا للرسم والرياضة و”ناقدًا غلافيًا” ينتقد العمل الأدبي “من الغلاف إلى الغلاف”..ومَعلمًا من معالم “قصيدة النثر” ورُوّادها الذين أرسوا قواعدها في هذا الأرض الطيّبة!
وكان ميشيل حداد شاعرًا وأديبًا وأبا الأديب..”شقّة توأم” الشاعر اللبناني ألبير أديب..صاحب مجلة “الأديب”!
وعلّمنا الرسم بالرصاص الأسود!
وكان قلم الرصاص الأسود ريشة الغلابى الصاعدين من بين أنقاض النكبة ودخانها الأسود!
فقد أطلقوا الرصاص الأحمر على العصافير الخضراء..وطيّروها من أعشاشها ومن وطنها الجميل..
طيّروها لتستقرّ في كنف ذوي القربى “ورعايتهم”..و”لتنعمَ” بظلمهم الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا!
*
كان لقاؤنا الأول مع الأوائل: إبراهيم حنا إبراهيم موسى وإسحق داهود وجورج سليمان وغازي عبد الحليم وجهينة حبيبي..وربما كان هنالك آخرون لا أتذكرهم ولا أعرف أسماءهم..ولا أجد كلمة تسع اعتذاري عن غياب المعرفة بهم..
وكان هنالك آخرون لم نسمع عنهم خارج مدينة الناصرة التي تعيش في حصار ثقافي وحكم عسكري عزّ نظيره..
بدأنا بثلاثة أو أربعة..ثم ثلاثة أو أربعة..ثم..
ويحلّق في سماء الإبداع سرب فنّي آخر: د. سليم مخولي وكميل ضوّ وسعاد نصر وتيريز نصر وعبد يونس وسسيل كاحلي وعبد عابدي..
**
عبد عابدي هذا الفتى الأسمر يحتل حيزًا بارزًا على خشبة المشهد التشكيلي..ويتجلّى أمامنا فنانًا ملتزمًا..ملتصقًا بالأرض والإنسان والقضية..يحترف القلق الوجودي..ويقف مع مجموعة من زملائه في خط الدفاع الأول على الجبهة التشكيلية!
* وانهمر المطر!
ثم انفتحت أبواب السماء..وانهمر المطر..خيرًا وربيعًا وخصوبةً إبداعيةً!
وتطلّ طلائع جديدة.. وأسراب جديدة..ترفع رايات الفرح الإبداعي وتزيّن هاماتها أقواس قزح..
زهدي يحيى قادري ومروان أبو الهيجا وفريد أبو شقرة وأسد عزّى وأحمد كنعان وسعيد أبو شقرة وبثينة ملحم وظافر شربجي وهدى جمّال وأسامة سعيد وزاهد عزّت حرش وفاطمة أبو رومي وإيليا بعيني ومحمد كلش وإيمان أبو حميد وطارق شريف وداهود حايك وإبراهيم نوباني ورنا بشارة وخليل ريان وعبد الله قرا وعاصم أبو شقرة وحميدو شلبك ومريانا منصور نخلة..
**
وتكون خاتمة هذه القائمة البتراء..فنانة صغيرة!
إنها أصغر العصافير في هذا السرب التشكيلي..وقد طرّزت على صدرها بالحرير الأخضر:
الاسم: كاترينا سلامة.
العمر: ثماني سنوات!
وتقول قارئة الفنجان: هذه العصفورة الملوّنة..على موعد مع بحار زرقاء!
هذه حزمة صغيرة من سنابل الخير التي تنتشر في حقول الفن التشكيلي..
وهنالك بيادر عامرة غامرة من سنابل فنية يانعة لا أعرفها..
وهنالك آخرون كثيرون لا أعرفهم.. وأعتقد أن لديهم طاقات إبداعية ومواهب تستحق كل التقدير..وكل منهم يستحق منّا باقة ورد ملأى محبّة وطافحة شذا يملأ الفضاء التشكيلي..
ولا أخفي عليكم أنني أجد نفسي محرجًا كلما ذكِر أمامي اسم أحد الفنانين ولم أكن قد سمعت عنه..غير أن الإحراج سرعان ما يتبخر عندما ألتقي هذا الفنان شخصيّا وأتعرف على نماذج أصيلة من فنه الإبداعي..فأعاتب نفسي: أين كنتَ غائبًا عن هذا الفن الجميل؟
فالمشكلة مشكلتي..
ومرة أخرى.. لا أجد كلمات تسع اعتذاري عن عدم ذكرهم، ذلك أنه لم يُقيّض لي أن أتعرف عليهم.. رغم الطموح الثقافي الجامح لاقتحام حقول المعرفة المختلفة..
فمثلنا مثل آخرين كثيرين لم يؤتوا من العلم إلا قليلا..فلجأوا إلى خزانة التراث، وراحوا يسيرون على هدي الآية الكريمة “وقل ربّ زدني علمًا”!
وأحمل القنديل الذي حمله الكثيرون غيري..وأسير على هَدْي هذه الكلمات المضيئة الشامخة..لعلّي أهتدي إلى ينابيع مجهولة!
* 300 فنان وفنانة!
في رسالة تلقيتها من الفنان الإنسان الأخ زاهد عزت حرش.. يشير فيها إلى أننا نملك ثروة طائلة من الفنانين التشكيليين.. رسامين ونحاتين وخزافين ومصممين وخطاطين..إلخ
وهذه الثروة بلغت ثلاثمائة فنانة وفنان..وهي أرض خصبة وخيّرة تقف عليها الحركة التشكيلية الفلسطينية الصاعدة.. التي تمتد جذورها عميقا في رحم هذه الخارطة..
ونستطيع أن نباهي الآخرين ونتباهى بهذه الكوكبة المباركة من الفنانين التشكيليين، ونقدمها أمام التاريخ شاهدًا شاهقا دامغًا على أننا شعب حضاري عريق يستحق أن يعيش كباقي الشعوب المتحضرة..
ونستطيع أن نتفاءل..لأن على هذه الأرض ما يستحق أن نعشقه وأن نحيا من أجله..
ونستطيع أن نمتشق سلاح الأمل..وأن نؤمن أننا على موعد مع ربيع مشتهى..
فرغم البقع السوداء في ثيابنا..
ورغم الأعشاب الصفراء والطفيليات في حدائقنا!
ورغم الرياح السمُوم العابرة التي تهبّ علينا من الجهات الأربع..فتدقّ أبوابنا..وتهدّد بمداهمتنا واقتحام بيوتنا!
رغم هذا وذاك..نظل من أشدّ الشعوب استحقاقًا وتوقًا وتعطشًا لمثل هذا الربيع!
* عن الفتوحات اللغوية
في جلسة هادئة في مقهى ثقافي يرتاح على كتف كرملي..معلّق بين الأرض والسماء..وتحيطه غابة من الصنوبر “والسنديان”..بُسطت أمامي خارطة البرنامج لهذه الأمسية التكريمية..وطُلب مني أن أتطرق في كلمتي إلى الجانب اللغوي..في حضرة هذه التشكيلة الرائعة والمباركة والمعطاء من الإخوة الفنانين التشكيليين!
وكان حوار ثقافي ممتع حول اللغة والإبداع التشكيلي والكلمات الأعجمية الهجينة الوافدة وقضايا الترجمة للمصطلحات الفنية.
ويطيب للفنان عبد عابدي أن يرى ما يريد.. فيحدثني ذلك المساء كيف فتح أبواب السماء أمام سرب من الكلمات التي كانت غائبة عن المشهد التشكيلي.. وكانت تعيش نوعًا من الشتات اللغوي..
فتح عبد عابدي لها الأبواب والنوافذ والشرفات..فاستقبلها ورحّب بها وعانقها واحتضنها وأجلسها في مكان الصدارة من ديوان الفن التشكيلي في خارطة العذاب الجميل..
ويطيب للفنان أن يرى نفسه عرّابًا وأبًا حانيًا للمفردات الوافدة من قواميس الوطن العربي..وشاهدًا على اجتيازها حدود حديقتنا..ورغبته في ضمّها إلى أخواتها مفردات الأبجديّة للفن التشكيلي .
فقد أصدر لها تأشيرة دخول إلى هذه الخارطة..وربّت على كتفيها..وقال لها: أنت مُجازة!
* كلمة “لُوَين” (على وزن فُعَيل)
يقول لي عبد عابدي: كنا نستعمل كلمة “لَوْن” ترجمة لكلمة (גוון) باللغة العبرية. وهي فرد من أفراد “عائلة اللون” يختلف في ملامحه بعض الشيء عن باقي أفراد العائلة الواحدة. وهذه الكلمة جزء من الأجزاء التي يحتويها اللون الواحد. فلماذا لا نستعمل صيغة التصغير ونقول “لُوَيْن” (بضمّة على اللام) على وزن “فُعَيْل” بضمّة على الفاء)؟
ويؤكد الحبيب أبو حبيب الدكتور فهد أبو خضرة الريناوي أنها كلمة معروفة ومستعملة..وهي موجودة في خارطة الأبجدية في الصحافة العربية التي تصدر في العالم العربي. غير أنها لم تكن معروفة لنا في لغتنا التشكيلية في هذا الوطن. وقد أشاع الفنان عبد عابدي استعمالها في أوساط الفنانين التشكيليين.
ويتجلّى توارد الخواطر في أبهى مظاهره!
ويفرح الفنان فرحًا طفوليًا بهذه اللعبة اللغوية..وبهذا “الاكتشاف” الجميل!
وتُضاء شمعة!
“* مَرْسَم“
ويقول عبد عابدي بفرحة فيها نغمة من الرضا عن الذات إنه أعطى زخمًا لاستعمال كلمة “مَرْسَم” (وهي اسم المكان من الفعل رسم) ويقابلها في الصحافة المصرية كلمة (مُحترَف)
وكان البعض منّا يستعمل عبارة (محل الرسم) أو (ورشة الرسم)..فجاءت (مَرْسَم) وشقّت طريقها ثم استوت على عرش الأبجدية التشكيلية!
وتُضاء شمعة ثانية!
* “عَرَبِسْك” Arabesque
ويجيء دور “عَرَبسْك”..
فكلمة “عَرَبٍسْك” مثلا معروفة وشائعة في اللغات الأجنبية وتعني في اللغة العربية: فن الزخرفة العربي..ومعناها في المعاجم الحديثة (وخاصة العبرية!!) “فن التوريق”
يجلس الفنان أمامي على كرسي الاعتراف ويعترف أنه لم يخترع هذه الكلمة..غير أنه عرف كيف يخلع عنها ثياب الغربة..ويخلع عليها عباءته العربية..ويفتح الطريق أمامها إلى الصحافة..عبر عمله محررًا فنيًا في صحيفة “الإتحاد”.
ومن ثَمّ فقد كان الطريق أمامها ممهّدًا لتحتلّ مكانها على فضاء أوسع.. فتجلس على عرش ثقافي جديد..وتكون دار النشر “عَرَبِسْك” التي تصدر فصلية “مشارف”.. والتي احترفت إصدار التراث الأدبي للمتشائل إميل حبيبي..
* “عَرَبل” (Arabelle)
أخيرا..تبقى كلمة “عَرَبِل” وهي اسم لجمعية الفنون التشكيلية التي أسسها عبد عابدي.
وفي هذا يقول أهل العلم:
هنالك نوعان، على الأقل، من النحت :
النحت الفني: وهو نحت التماثيل من الحجر والشجر.
والنحت اللغوي: وهو بناء كلمة جديدة من كلمتين أو أكثر..كالبسملة والسمعلة والحوقلة والحتلنة..إلخ (بسم الله الرحمن الرحيم. سمع الله لمن حمده. لا حول ولا قوة إلا بالله. حتى الآن)، وفي العبرية نلتقي الاصطلاح ” הלחם ” الذي يطلق على كلمات منحوتة مثل: (רמזור (רמז אור)- דו”ח (דין וחשבון) זרקור- זרק אור. תפוז: תפוח זהב. עדכון: עד כאן. وفي الإنجليزية Politicide أي: “الانتحار السياسي”. وهي كلمة ابتكرتها قريحة آبا إيبن وزير الخارجية في حينه..والذي عرف عنه إحاطته الموسوعية باللغتين العبرية والإنجليزية..وكذلك إلمامه وخطاباته باللغة العربية المنمّقة عندما كان على ظهر خيله!
ويجتهد الفنان عبد عابدي..فيطيب له أن يرى في كلمة “عَرَبل” نحتًا من كلمتين باللغة الإيطالية: Araba: عربية Bella: جميلة.. أي “العربية الجميلة”. وفي اللغة الإيطالية تطلق على الفتاة الجميلة. وتطلق في بعض اللغات الأوروبية على الفرس العربية الأصيلة الجميلة.
وهل هنالك أحلى من هذا الاسم “الفتاة الجميلة” أو “الفرس العربية الجميلة” يطلق على جمعية لرعاية الفنون وتطويرها في هذه الأرض الجميلة ؟
هل هنالك أحلى من هذا الاسم لجمعية تحتضن جميع الفنانين تحت سماء هذا الوطن النبيل..الذين تحتفي بهم ونكرمهم في هذا المساء الجميل؟
وتُضاء شمعة رابعة..وهي سيدة الشموع!
* هنا دْرِزْدِن..هنا كان عبد عابدي!
قبل سنوات خمس.. كنت في مدينة دْرِزْدِن الألمانية ..وهي جوهرة فنية حضارية ثمينة في التاج الألماني.
وزرت قصر الثقافة..فوقفت أمام جداريّة فنية كبيرة تزيّن القصر وتشعّ جمالًا وبهاء وهيبة فنية مميّزة. وتصوّرالجداريّة مسيرة الشعب الألماني منذ أيام الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر حتى ميلاد ألمانيا الديمقراطية. وقد شارك في إبداع هذه الجداريّة مجموعة من الفنانين الذين خرجوا من معطف كلية الفنون في دْرِزْدِن..وحازت هذه الجداريّة على وسام الدولة الألمانية!
ومن بين أسماء الفنانين الذين أبدعوا هذه الجداريّة..شدّ انتباهي بصمات حيفاوية كرملية أعرفها..وبيني وبينها عيش وملح!
فاستيقظت في قلبي ذكريات تغطّ في سبات عميق!
واختلط عليّ الأمر برهة..ثم “وجدتها”!
وتمثّلتُ عنترة واقفًا على أطلال ابنة عمّه عبلة..”فعرفت الدار بعد توهّم”..
وبشكل لا إرادي ..أفلتّ من فمي عبارة فيها الكثير من الفرح الطفولي:
هنا كان عبد عابدي!
**
أيها الإخوة
هل نستطيع أن نتحدث عن هذه الثروة الطائلة التي أمامنا وأن نحشر هذه العاصفة التسونامية التشكيلية الرائعة في حذاء صيني مساحته عشر دقائق؟
أشك في ذلك..
فكل فنان هنا في هذه القاعة..وهنا في أرجاء الوطن..بحاجة إلى حفل تكريمي كامل السلطة والسيادة والاستقلال!
ونحن بحاجة إلى فضاء بلا حدود أو حدوده السماء..لكي يحتضن هذا السرب الكبير المبارك من الطيور الجميلة..مبشرًا بالربيع القادم حتمًا!
ومن هنا..نطلق الدعوة إلى مهرجان قطري يحتضن جميع العصافير الإبداعيّة..ويكون رافعة لحركة الفن التشكيلي في انطلاقها نحو سماء الأروع!
فنحن على موعد مع الفجر الطالع حتمًا..وإلى لقاء قريب!
وأخيرًا..أيها الإخوة
معذرة على هذه الكلمة الطويلة..فلم يكن لدي الوقت الكافي لكتابة كلمة قصيرة..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
**
(ألقيت الكلمة في حفل تكريم الفنانين التشكيليين الذي بادر إليه الفنان عبد عابدي، والذي أقيم في مسرح “الميدان” في حيفا بتاريخ 20-6-2006)