بدأت في حزيران الفائت مشواري التواصليّ مع أسرى في غياهب سجون الاحتلال الإسرائيلي ممّن يكتبون؛ زرت أحمد وأحمد، باسم، حسام، سامر، سائد، شادي، طيون، عاصم، كريم، كميل، مروان، ناصر، هيثم، وائل ووائل، وليد ومعتز مرّات عدّة. في سجن الجلبوع، مجيدو، هداريم، ريمون، نفحة ،النقب الصحراوي…وعسقلان. وفي طريقي إلى كلّ لقاء وبعده أعيش وِحدتهم في الزنازين وخلف القضبان، عزلة فُرِضت عليهم لسنين طويلة، أهاليهم يتعذّبون بسبب الفراق وحرمان اللقاء، يجدّد كلّ يوم يمر الألم ولهيب الشوق؛ يشعر كلّ واحد منهم بالوحشة والغربة والحنين، والشوق لكعك وقهوة أمّه، وزغرودتها حين تحتضنه حرًا طليقًا.
زرت صباح الثلاثاء 17.03.2020سجن عسقلان للقاء ثلاثة أسرى، وشبح بعبع كورونا يخيّم في فضائنا. طلبت منّي إدارة السجن أن أبكّر لإجراءات أمنيّة ووصلت الساعة السابعة والربع صباحًا بسبب حركة السير الخفيفة على غير المعتاد بسبب كورونا. وبطبيعة الحال تحدّثنا بداية عن زيارة العمّة كورونا الكونيّة لكلّ أرجاء المعمورة في آن واحد، زيارة: personae non gratae)) غير مرغوب فيها لثقل دمّها والاحتياطات التي يتّخذونها خلف القضبان لمواجهتها. قلقهم كبيرًا تجاهها، خاصّة أنّ غالبيّة الأسرى في سجن عسقلان مرضى، ويعانون من الإهمال الطبيّ المتواصل والمريب؛ شكوا لي انعدام الظروف الصحيّة الملائمة داخل الأسر ممّا يزيد مخاوفهم وقلقهم في ظلّ العمّة كورونا وزيارتها المباغتة لعالمنا، وظاهرة الإهمال الطبي تجاه الأسرى الفلسطينيّين التي أودت بحياة عدد كبير منهم، وما زالت تهدّد حياة العشرات، والسلطات تتجاهل ضاربة عرض الحائط القانون الدولي.
تبيّن أنّ ليس هناك أحد محصّن من زيارتها و/أو لديه المناعة ضدّها، صار كلّ الناس في كلّ أرجاء المعمورة في زنزانة كونيّة كبيرة؛ بات الكلّ محاصَرًا، وكّأنّه في قرية صغيرة في زمن العَولمة.
نضحت صفحات الفيس بوك بالنحيب والعويل والبكاء، ودموع التماسيح، هذا يشكو من عدم تمكنّه من معايدة والدته في عيد الأم، ذاك يبكي عدم قدرته على وداع عزيزه ساعة موته وحرمانه المشاركة في جنازته، الجدّ يشكو حرمانه من زيارة وعناق أحفاده، تلك تبكي حرمانها من جماع حبيبها، لواء آخر يتذمّر حرمان غاليته من الجيم، هناك من يشكو حرمانه من التعلّم وأخر من العمل وأخرى من متعة التبضّع والتسوّق، آخرون يشكون تأجيل سهرة خطبة أو عرس، آخر حرمانه من رحلته الموعودة إلى البرازيل، “شويعرة” تتحسّر على تأجيل إصدار وإشهار ديوانها الجديد، آخر حرمانه قهوة أمّه، أخر يتذمّر من حرمانه أكلته المفضّلة، وآخر يتوق لكأس نبيذه. يا للحرمان ويا للخسارة الفادحة!!
كلّ وليلاه!
كنّا نعيش، قبل تلك الزيارة، كلًّا وعالمه الخاص به وأناه، بأنانيّة مفرطة، وكأنّه الوحيد الأوحد في الكون على كوكبه الخاص، وحول فلكه تدور الحياة، في السلم والحرب. كلّ وأولويّاته، وهمّه الطمأنينة له ولمقرّبيه؛ فالمقرّبون أولى بالمعروف، بعبثيّة متفاوتة بين الواحد والآخر. فجأة تغيّرت الموازين وطرقت هذه العزلة والوحدة جدران الخزّان، ليستفيق كلّ منّا من سباته العميق ومن غيبوبة طالت نتاج رفاهية عشناها.
فوجئت حين اتصّل بي كميل، حسام، معتزّ، منذر وأسرى آخرون من خلف القضبان يطمئنّون عليّ وعلى عائلتي لأنّهم سمعوا بأنّ العمّة كورونا زارت حيفا!
الآن، ومع زيارة العمّة كورونا الكونيّة، مُنع التجوّل العالمي، الحصار والعزل البيتي لأكثر من ثلاثة مليارات شخص حول العالم، في آن واحد. بإمكاننا أن نستوعب معنى الحصار على غزّة وأهلها لسنين مضت، ونفكّر بحالهم، بإمكاننا أن نفكّر في عزلة أسرانا لسنين طويلة مضت، ونذوّت معاناتهم اليوميّة كلّ تلك السنين (ولا مين شاف ولا مين دِري)!
نعم؛ أسرانا ليسوا أرقامًا ولا مشاريع موت، إنّهم أسرى من أجل الحريّة، من أجل الكرامة، من أجل الاستقلال، من أجل الوطن!!
أحلام وهواجس وكوابيس تداهم أسرانا وأهاليهم في منامهم والموت يحاصرهم. سلامتهم سلامتنا ومناعتهم مناعتنا.
لا نوم ولا راحة، وانشغال بالتفكير في زمن كورونا وفي كلّ زمان.
جاءتني كلمات محمود درويش وقصيدته “فكّر بغيرك”. آن الأوان لتصير شعارنا:
” وأنتَ تُعِدُّ فطورك، فكِّر بغيركَ
لا تَنْسَ قوتَ الحمام
وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكِّر بغيركَ
لا تنس شعب الخيامْ
وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكِّر بغيركَ
ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكِّر بنفسك
قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام”
لكم أعزاءي خلف الزنازين أحلى التحيّات، الحريّة لكم لتعانقوا شمس الحريّة، في زمن كورونا وفي كلّ زمان
***مشاركتي في كتاب “شهود من أهلها. أحاديث الجائحة” (إعداد وتحرير: سامر حيدر المجالي وسجود
ضيف الله العناسوة، إصدار الآن/ناشرون وموزعون)