يُعنى أدب السجون الكلاسيكي بتصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرّض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يوميّاتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن، فهو إن صحّ التعبير، “رواية السيرة الذاتيّة”، يهتم بوصف وتوثيق التعذيب والمعاناة وكشف البشاعة من وحدة ورعب والزنازين الانفراديّة الموحشة، والتعذيب النفسيّ والجسديّ وغيرها.
جاء أسرانا الفلسطينيّون ليشرّعوا الباب والتعريف ليصبح أدب السجون الحداثيّ هو الأدب الجميل الذي يُكتَب خلف القضبان بغضّ النظر عن موضوعاته ومضامينه!
أتفق مع صديقي الأسير ناصر أبو سرور: “الأديب يعيش أكثر من السياسي”، فالأدب يُعمّر أكثر من السياسة وتحفظه الأجيال وتتناقله، بينما السياسة تموت في الغالب مع صاحبها، وتبقى كلمات أسرانا وكتاباتهم أبديّة.
يبقى السؤال مفتوحًا حول تعريف أدب السجون – هل هو أدب كتبه سجناء؟ أم أبطاله سجناء؟ أم عالم السجن محوره وموضوعه ومادّته؟
وصلتني نسخة من كتاب “حسن الّلاوعي سروج خالية” (الكتاب صدر عن دار الفارابي اللبنانيّة ويقع في 325 صفحة، الغلاف من تصميم شذى صافي)، للأسير المحرّر إسماعيل رمضان؛ وهو عبارة عن سيرنصيّة، يصوّر تجربته النضاليّة والإعتقالية وما مرّ به ورفاق دربه خلال عشرات السنين.
يحلّق في فضاء الكتاب حسن اللّاوي؛ ابن قرية كفر اللبد، اعتقل عام 1939 بتهمة قتل ضابط بريطاني يُدعى ستيوارت حاول انتهاك حرمة المسجد الأقصى بحثًا عن الثوّار، سُجن في سجن عكّا سيئ الصيت وورثه الكيان مع النكبة، قضى فترة حبسه معزولًا منفردًا في زنزانته، ونُقل إلى مركز للعجزة وأُطلق سراحه عام 1983 وتمّ إبعاده إلى الأردن وتوفّى بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى هناك ودُفن منسيًا، وها هو الكاتب يمنحه بعضًا من حقّه، علّه يكون عبرةً لعشرات الأسرى الذين يرزحون خلف القضبان عشرات السنين، منسيّين رغم تضحياتهم في سبيل الوطن.
يشكّل مخيّم الدهيشة مسرحًا للأحداث، وأهاليه المهجّرين إثر النكبة أبطاله، والعدو وجنوده، ولاحقًا مستوطنوه، يعيثون دمارًا بالبشر والحجر ويضيّقون الخناق على أهله، ليصنع منهم مناضلين يقاومون الاحتلال حالمين بالحريّة والاستقلال.. يومًا ما.
يصوّر إسماعيل لذّة اعتقاله الأوّل “كنّا صغار السّنّ وأكثر بهجةً وفرحًا، وكأنّ أحدًا ما قد ملأنا بالفرح… نحن بعد الاعتقال ليس كما قبله فنحمل تيجان الفخر والاعتزاز. كنّا فرحين، وأرجلنا تكاد لا تلامس الأرض، مشينا ونحن سعداء بمغادرة السجن، وسعداء أنّنا كنّا سجناء” وما تلاه من اعتقالات ومحكوميّات، نشاط الحركة الطلّابيّة ودورها النضاليّ، يرسم بريشته خريطة النضال ويوسم أبطاله ورفاق دربه؛ نادر فايز العفّوري، محمود فنّون، إياد أبو علي، سامي مطير، عمر النّايف، عادل المذبوح، أحمد سعدات وغيرهم (يركّز رمضان على دور الجبهة الشعبيّة ومناضليها؛ كان حريًّا به أن يتطرّق لمناضلين آخرين، يحملون لونًا آخر غير لونه من كلّ أطياف النضال الفلسطينيّ)، يصوّر التعذيب والمعاناة في الأسر.
يسلّط الكاتب الضوء على بطولات رفاق دربه ليفيهم بعضًا من حقّهم، ويخصّ نادراً وسيرته البطوليّة ويذكر أغنية كتبها الأسير ابراهيم الرّاعي (قُتل بدم بارد في أقبية التّحقيق):
“بكمّاشة حديد خلعوا حلماته وبكيّ السّجاير شووا لحماته
مهما الصهاينة شلّوا حركاته نادر بصموده فجّر بركانا
زيدي يا جبهة بأبطالك زيدي والله عن دربك ما تحيدي”
ولكن وجدتُ بعض “التقديس والتأليه” لقسم من الأسرى الرموز، أمثال نادر، محمود وأحمد وكان بغنى عنه في مثل هذا الكتاب وحبّذا لو يكتب، رمضان أو غيره، سيرة كلّ منهم، فهم يستحقّونها دون أدنى شك.
يصوّر رمضان الحركة الأسيرة ونضالاتها على مرّ السنين؛ التنكيل اليومي بالأسرى، وسائل التعذيب، نقلهم بين السجون المختلفة، تقييد الأسرى المرضى وربط سيقانهم إلى حديد السرير أثناء العلاج، الإهمال الطبّي، العزل الانفرادي، تنظيم الأسرى، معاناة الأهل، المحاكم الاحتلاليّة الصوريّة، دور محامي “التنظيم” المنتفعين، الإضرابات عن الطعام، عمليّات التبادل وغيرها، فالسجن بلا قلب!
يتناول الكاتب انتفاضة الحجارة وقدسيّتها، المشاركة الفعّالة لكل القطاعات، منع التجوّل والحصار الوحشيّ، كونها حالة يوميّة دائمة وعارمة، نهج حياة شمل كلّ قطاعات الشعب الفلسطينيّ بكلّ أطيافه ممّا لفت أنظار العالم لمأساة الشعب قبل إجهاضها مقابل أبخس الأثمان “كانت هناك عروض على الفلسطينيّين أضعاف ما تمّ تحقيقه في أوسلو؛ عروض دون مفاوضات مقابل وقف الانتفاضة، وتمّ تقديم إجابة واحدة دون النّظر إلى المقترحات. وهي أنّ منظّمة التّحرير هي المخوّل الوحيد بتقديم إجابة”(ص. 170)
يمتعض إسماعيل ممّا آلت إليه حالتنا حين يصوّر بكاميرته إمبراطوريّة رام الله والمسرحيّة السلطويّة الواهنة، كبيت العنكبوت، بسخرية سوداويّة قاتلة؛ مراسيم، شعارات، أفراد، رُتب، رَواتب، عدّة، مُعدات، وقادة، ويسخر من المهرجانات الموسميّة والأسطرة التافهة وممّن “يمضغون تاريخ شهدائهم وأسراهم وكأنّهم غدًا يخرجون من أبواب سجونهم” ويخاطب كلّ المزايدين الموسميّين “عليكم أن تشاهدوا أنفسكم في المرآة، والتّاريخ والحدث أفضل مرآة. فصورتكم العجز والفشل كما فحل مخصيّ يتغنّى بساعات عشقه وفعله السّابق، ويتغنّى ببطولة مزعومة، يقاومها سرًّا ويعلنها مستذكرًا دماء شهداء وآلام أسرى”.(ص. 103) يسخر من رجالات فتح “إنّها استبدلت الدولة بالوطن، فلدينا دولة ولا يوجد لنا وطن أو أرض”.
يسخر ويمتعض رمضان من كومبرادوريّي الاحتلال وفرسانه الذين “كان يحلو لهم استخدام كلمات عبريّة، وكأنّها تعطيهم تفوّقًا وامتيازًا… ليملأوا فراغهم الدّاخليّ، وفقر نفوسهم، وجشع جيوبهم، وللادعاء أنهم ببعض ملابسهم أو سيّاراتهم الخاصّة أفضل من فنّون المناضل والمفكّر”، وهم الدولة ودور “السُّلطة” التي صارت ذيلًا وتابعًا للاحتلال، بوصاية الدول المانحة ورعايتها لتنفّذ “وعد” أوسلو الذي يكمّل وعد بلفور لتفريق الوعي الوطنيّ وعزله عن نموّه الوطني لتتعايش معه في عمليّة تطبيع وتدجين مستمرّة ومميتة. صارت “السُّلطة” المُطبِّع الأوّل من حيث لا تدري، يسخر سخرية لاذعة من الأصوليّين والانتهازيّين “هؤلاء آخر من يدفع وأوّل من يقبض”.
ينتقد رمضان ظاهرة المؤسّسات الأهليّة المدعومة من الغرب في خدمة الاحتلال وحمايته وباتت تشكّل جدارًا منيعًا لحملة إسرائيل ومصالحها الاستعمارية ومنع الاعتداء عليها ومقاومتها، تعمل على تكريس الاحتلال وتغلغله في الحياة اليوميّة لتصبح كجدار الفصل العنصريّ الذي بناه الكيان، بل أسوأ، وجاء في صفحة 223-4 “وجودها هو فقط لحماية
إسرائيل وتغليف الصّراع مع إسرائيل بقفّازات ناعمة، والدّعوة إلى التّعايش وكأنّنا نحتلّ إسرائيل”.
حين قرأت وصفه للقائه الأول بالأسير أحمد سعدات جاءني لقائي به يوم 3 يونيو 2019 (كان اللقاء الأوّل ضمن مشروعي التواصليّ مع أسرى يكتبون) في سجن ريمون الصحراويّ وكتبت على صفحتي: “انتظرت في غرفة المحامين فأطلّ منتصب القامة، التقيته للمرّة الأولى، لا شعوريًّا وقفت لمصافحته وعناقه لكنّي شعرت فجأة ببرودة الحاجز الزجاجيّ الفاصل، رغم الحرّ الصحراويّ، وكان حديثنا عبر سمّاعة الهاتف الحديديّة الصمّاء الجافّة. تبادلنا أطراف الحديث فجاء مثقّفًا لأبعد الحدود، تحليلاته مدروسة ومنطقيّة، ملمّ بكلّ شاردة وواردة، بعيدة عن الشعاراتيّة ومتجذّرة بأرض واقعنا المرير. تحدّثنا عن الكتابة خلف القضبان، الأسير يكتب بمشاعره وأحاسيسه ويتوق لسماع صدى كلماته على أرض الواقع، عن أهميّة التعدديّة وضرورة النقد البنّاء والموجّه، عن الانقسام المقيت في الشارع الفلسطيني وأمور أخرى. كلّمني بثقة، شموخ ومعنويّات عالية أثلجت صدري وأزالت عنّي عناء ومشقّة السفر… وجلافة السجّان).
راق لي استعماله بتلقائيّة مصطلحات “أسيرة”: الفورة، القمقم، بسيدر، البوسطة، المعبار، أفرهول وغيرها، ولكن هناك بعض الأخطاء التي وردت في الكتاب؛ مستشفى أساف هروفيه وليس “هصفَة” أو “صَفاه”، تم اختطاف سعدات من سجن أريحا عام 2006 وليس 2016 (ص. 100)، معبر “اللنبي” وليس “اللمبي” (ص. 133)، “تمارا بيلغ” وليس بيلنغ (ص.222)، حكومة الوحدة الوطنيّة الإسرائيليّة كانت برئاسة إسحق شامير وشمعون بيرس وليس إسحق رابين (ص.287)، “البيريسترويكا” وليس البروستوريكا (ص.294) وغيرها.
ملاحظة لا بدّ منها؛ وجدت بعض الفصول التوعويّة “الدخيلة” إن جاز التعبير، الفصل المعنوَن “أحلام سجين” (ص. 115)، “أيموت البعض ليحيا البعض”(ص. 118)، “الموت في الحياة” (ص.239)
لا ينسى الكاتب رفاق دربه من الأسرى: “في مرحلة النّهوض الثوريّ القادم لا يجب أن يكون أسرى، وعلى مَن يدعوهم للانخراط في المقاومة أنْ يُؤمّن سُبل وأدوات الإفراج عنهم قبلَ زجِّهم في أتون العمل، فالأسرى ليسوا حطبًا في محرقة يتدفّأ عليها ثائرٌ في مكتب“.
كلمة لا بدّ منها؛ لكلّ أسير قصّة، والقصص العظيمة لم تُحكَ بعد، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيق قصص أسرانا، ويشكّل هذا الكتاب لبنة ضروريّة في لوحة فسيفسائية لم تكتمل.
وأخيرًا، كتب لي في الإهداء: “تحيّة إلى حيفا والعودة إليها، عن طريق المناضل حسن عبادي فرجال مثله جسر من جسور العودة، فهو في اهتمامه بكتابة الأسرى يعمل جسرًا للحريّة. أهديك كتابي هذا”. هديّة وإهداء أعتزّ بهما.
حسن عبادي