“حوريّة بين الثّنائيّة والثّالوث” قراءة في رواية “حرام نسبيّ”- عارف الحسيني – د. لينا الشّيخ- حشمة

“حرام نسبيّ” هي رواية تتصارع فيها الثّنائيّة والثّالوث. أمّا الثّنائيّة فنجدها في جدليّات وجوديّة متناقضة، أهمّها بين الأنوثة والذّكورة، المرأة والرّجل، السّجن والحرّيّة، الموت والحياة، الحبّ والخيبة، الحلال والحرام. وكلّها تتصارع في جدليّة قاسية وتضادّ لا يرحم.  وأمّا الثّالوث فلأنّها أوّلًا “تحوك الغرزة الثّانية في ثلاثيّة عن القدس”.  وهي تغطّيها في ثلاثيّة الأقطاب: السّياسيّ، الاجتماعيّ والدّينيّ. وفي الثّالوث المحرّم: السّياسة، الدّين والجنس.  وهي ثلاثيّة الأبعاد: البعد النّسويّ، المقدسيّ والعربيّ.  أمّا الثّالوث الأخير فهو الشّخصيّات الثّلاث المتصارعة في علاقة الحبّ: حوريّة، “هو” ونبيه.

هي رواية عن المجتمع المقدسيّ، مشحونة بالاحتجاج، بعيدًا عن الشّعارات البرّاقة والأيديولوجيّات المجرّدة، ملتصقة بحرارة التّجربة المعيشة والحياة اليوميّة، تكشف أزماته وصراعاته في ظلّ الاحتلال الإسرائيليّ، وما يصيب القدس من تغيير في معالمها والتّحوّلات السّريعة التي تصيب البشر والحجر على حدّ سواء. وعليه، يتأرجح الإنسان فيها تحت وابل من التّضادّ وثنائيّاته، في مواجهة تحدّيات سياسيّة، اجتماعيّة، دينيّة، اقتصاديّة، وإنسانيّة، فتتشرذم ذواته كما تتشرذم الأمكنة.

لعلّي لا أعرف لماذا وثبت إلى ذهني ثلاثيّة الكاتبة الجزائريّة أحلام مستغانمي حين شرعت بالقراءة؟! أوَ لعلّ الكاتب قرأها وتأثّر بها؟! لعلّ اعتقادي هذا يعود إلى وجود الكثير من النّقاط المشتركة والمتعالقة بينهما؛ كأن يتّخذ الكاتب قرارًا بكتابة ثلاثيّة عن القدس، منتهجًا نهجها بتبديل أدوار الرّواة من رواية إلى أخرى، تقاسم أدوار البطولة بين الرّجل والمرأة، ثمّ تنازع البطولة بين شخصيّة إنسانيّة والمكان! فإذا كانت مستغانمي قد جعلت لمدينة قسنطينة – كما في “ذاكرة جسد”- حضورًا طاغيًا متماهيًا مع الأنثى والمحبوبة فكذلك فعل الحسيني في روايته في ربط مدينة القدس بحوريّة. وكأنّي به قد قال لنفسه: إذا كانت مستغانمي، وهي المرأة، قد نجحت في تقمّص شخصيّة الرّجل فسردت بلسانه وغاصت في أعماقه فبإمكاني أنا الرّجل أن أخوض في كينونة المرأة وأتقمّص شخصيّتها، أغوص فيها فأبوح بلسانها. لقد نجح الكاتب فعلًا في إدراك كنه مشاعر الأنثى وكشف خبايا نفسها؛ لقد نجح في تحقيق قـول فرويـد: “بأنّ الشّعـراء والأدباء قد سبروا أغوار النّفس الإنسانيّة قبل أن يتمكّن علمـاء النّفس من سبر أغوارها”.

تقمّص الكاتب شخصيّة حوريّة وغاص في أعماق هواجسها، جاعلًا منها المؤلّف الضّمنيّ، والسّارد لمعظم الفصول، كاشفًا ذلك في عتبة الغلاف: “تبوح حوريّة… بما حملته معها عن الحياة والموت، عن الحبّ والزّواج، عن الفتاة والمرأة والرّجل في مجتمع يرزح تحت وطأة المحتلّ، تذود عن حرّيّة روحها بكلّ ما لديها من عنفوان”. فتأخذنا حوريّة في رحلة عبر ذكرياتها وحواراتها الدّاخليّة، في رحلة وجدانيّة بدأتها من نقطة النّهاية، مسترجعة فيها عبر آليّات الاسترجاع الفنّيّ والمونولوج والتّداعي حكاياتٍ وأحداثًا عديدة بدءًا من حكاية زواج جدّتها حوريّة وحكاية شقيق جدّتها إسماعيل، منتقدة هذا الجهل بتقديس قطرات الدّم وانتظار العروسين خلف الباب، وانتظار الرّؤية الشّرعيّة لفضّ البكارة، وغيرها من العادات الّتي تقهر حقّ المرأة وتذلّها.

وممّا يؤكّد هذا السّعي وراء الحرّيّة ما كتبه الكاتب في عتبة الإهداء موجّهًا إيّاه إلى ابنته: “إلى لور.. ابنتي، عسى أن تسعفك الحياة لتكوني كما تريدين، لأنّك ورد الحياة”. يكشف الكاتب في إهدائه هذا عن خوفه على ابنته من آلام مدينته؛ فورد الحياة لا يحتاج إلّا إلى حرّيّة هواءٍ، وشمس أملٍ، وأرضٍ خصبة غنيّة بالعلم والثّقافة، نقيّة من أدران النّسبيّة. هكذا تكشف هذه العتبات النّصّيّة، والّتي تشكّل مع العناوين والمقولات بعد كلّ عنوان، مادّة ميتاقصّيّة هي ممارسة نقديّة للكاتب عن عمله، تختزل دلالة النّصّ وتكون مادّة مساعدة للقارئ في عمليّة التّأويل.

 

** “الحرام النّسبيّ” والرّقيب الاجتماعيّ والدّينيّ

“حرام نسبيّ” عنوان دالٌّ ومثير للأسئلة. إضافة إلى ما يثيره من عظيم الأثر على القارئ العربيّ خاصّة. وهو عنوان فرعيّ للفصل الثّالث أيضًا، والّذي أورد الكاتب تحته مقولة يقول فيها: ” في ثقافتنا النّسبيّة.. الحرّيّة لمن يستطيع امتلاكها، وليس لمن يستحقّها”، ثمّ يوضّحها في عبارة وردت على لسان حوريّة في صفحة 107: “لا يحدّثني أحد عن الصّحّ والخطأ، ولا عن المنطقيّ وغير المنطقيّ، بل حدّثوني عن الحرام النّسبيّ الّذي يتلاعب به الأقوى ليفصّله على مقاسه. أخبروا أبناء المستقبل أنّ الحرّيّة هي لمن يستطيع امتلاكها وليست لمن يستحقّها”. هكذا يغوص المجتمع في أدران الازدواجيّة والنّسبيّة، وتحت حسابات المصالح الشّخصيّة، فيحرّم الفرد لغيره ما يحلّله لنفسه.  يخشى الخطيئة وخدش الحياء بالعلن ولا يهمّه ما يفعله بالخفاء، في منظومة متناقضة بين القول والفعل؛ منظومة الكيل بمكيالين، الإيمان بالشّيء وممارسة النّقيض، ازدواجيّة التّفكير والممارسة. “حرام نسبيّ” هي رواية “أن ينهى الفرد عن شيء ويأتي بمثله”، أن تفعل عكس ما تقول، وأن تقول عكس ما تفعل. وتتكرّر النّسبيّة خلال الرّواية كموتيف؛ “فالحرّيّات نسبيّة تعلوها المفارقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة”(ص 53). “والنّسبيّة في كلّ شيء هي الخطّ الموجّه لحياتنا.. تقودنا منظومة المصالح ولا تردعنا مبادئ الصّواب والخطأ”(ص 108-109)، و”ليس المنطق هو من يحكم ثقافة مجتمعنا، بل النّسبيّة المطلقة في كلّ شيء”(ص 107). حتّى السّعادة يؤكّد لنا أنّها نسبيّة، فهي وهم غير حقيقيّ نتخيّله نحن ونقدّر كثافته وعظمته. وعليه، تتغلغل النّسبيّة في كلّ معاني الحرام السّياسيّ والدّينيّ والاجتماعيّ، وبما تحمله من معاني الازدواجيّة والمفارقة والتّناقض.

يحلّل الرّقيب الاجتماعيّ ويحرّم بدافع الأعراف المتراكمة بالتّوارث، فيخلط بين الدّين وأعراف المجتمع بنسبيّة القويّ وبدافع التّخلّف. تجلّى الحرام الدّينيّ في شخصيّة عبد الكريم الّذي يمثّل الرّقيب الدّينيّ والاجتماعيّ، والّذي تعلّم في ألمانيا وعاد متشدّدًا بعد أن تلقّفته أيادي حزب إسلاميّ ليبحث في اللّيلة الأولى بعد زواجه عن نقطتي دم لم تسيلا حين تطلّب الأمر ذلك، ثمّ يأخذ زوجته إلى الطّبيب ليكشف عليها. إضافة إلى أنّه يتّهم حوريّة بالفسق والفجور لأنّها لا تلبس الحجاب. وهو من المتديّنين الّذين تصفهم حوريّة: “على الرّغم من أنّ الشّريعة واضحة، والحرام في الدّين بيّن والحلال كذلك، إلّا أنّ أمثاله يحاولون دومًا الحصول على الرّبح الأقصى من خلال البحث عن فتوى تلائم مصلحتهم”(ص 298). وينتقد الكاتب على لسان حوريّة الرّجال الّذين يتديّنون بشكل طارئ وبعد أن يمضي بهم الشّباب والمقدرة على ممارسة متعة الحياة الصّاخبة. فيعكس الأخ كذلك نموذجًا آخر ممّن يمثّلون “الحرام النّسبيّ”، والّذين ينتمون إلى جماعة المتديّنين ولكنّهم يتصرّفون عكس ما يمليه الدّين والأخلاق؛ فبعد أن ينفق الوالد عليه نفقات التّعليم في الأردن يتوقّف الابن عن السّؤال عن والده أو حتّى عن أخته. ثمّ يرفض أن يزور أباه قبل موته أو حتّى حضور جنازته، أو حتّى الاطمئنان على أخته بعد موت الوالد، لكنّه، وللمفارقة، يتّصل بالعمّ أحمد، مطالبًا بحصّته في البيت، وليكلّمه في سمعة أخته حوريّة كمطلّقة، وأنّه عليها “أن تضبّ حالها أحسن لها”(ص 273).

ويمثّل المدير المتحرّش نموذجًا آخر من الازدواجيّة حيث يشتهي كلّ امرأة عابرة ما دامت غير زوجته. ولكنّه يفصل موظّفين اثنين لأنّ الزّميل الرّجل الشّرقيّ المتحرّر أحبّ زميلته في العمل بصدق، وطلب يدها للزّواج كما تنصّ العادات والتّقاليد، مرسلًا “جاهة” وكأنّه لا يعرفها، ويضطرّ إلى عقد القران بسبب شرط والدها، خوفًا من أن تلامس كفّه يدها فتحدث الخطيئة. وعلى الرّغم من الزّواج الرّسميّ إلّا أنّ هذا الزّميل أحبّ أن ينفّذ ما كان يحلم به طوال الوقت وهو أن يقوم بمشهد رومانسيّ أمام الموظّفين، راكعًا أمامها، طالبًا يدها كما في المسلسلات الرّومنسيّة. ولأجل منظومة النّسبيّة يقوم هذا المدير المتحرّش بفصلهما لأنّهما خدشا الحياء. أمّا هو فبدناءة أخلاقه وتحرّشه الدّائم لم يخدشه أبدًا! “هذه هي نسبيّة القويّ وإقحام التّخلّف والغيرة والجشع بمعايير التّقاليد وأسس المقبول في مجتمع تحرّكه المظاهر في غياهب الرّجعيّة العربيّة والذّكوريّة المتأصّلة” (ص 175-182). من هنا، نلاحظ كيف يتماهى التّطرّف الدّينيّ مع القهر الاجتماعيّ في هذه المجتمعات المحافظة التّقليديّة؛ فهذه مجتمعات تؤمن بالقيم السّائدة وتعتمد تفسيرًا أحاديًّا يندر معها قبول المخالف، ويعطى التّراث صفة القداسة، فترفع أنساق القيم والموروثات سلاح التّكفير والإباحيّة على كلّ من يتجاوز الأعراف. ولمّا كان الجنس في المجتمعات المحافظة إثمًا فإنّ المرأة بجسدها الّذي يصبح مصدرًا لهذا الإثم تصبح هي الأخرى كائنًا يجب إحاطته بكلّ أنواع الممنوعات، وضرورة الانتباه إليها حتّى لا تصبح فتنة تهدّد السّلام الاجتماعيّ، وحتّى لا تخدش الآداب العامّة. ولذا تتّهم حوريّة بأنّها “فاسقة” لأنّها لا تلبس الحجاب، ولأنّها مطلّقة حرّة؛ إذ إنّ الحكم على تحرّكاتها عادة ما يكون قاسيًا ويخطّئها سلفًا. وهو الدّافع ذاته لعرضها للزّواج بعد وفاة والدتها ولمّا تبلغ الخامسة عشرة بادّعاء “بدنا نستر عليكي يا بنت!”. فهنا تصير بنتًا من باب التّحقير لأنّها لا تملك أحقّيّة نفسها، وليست ملكًا لذاتها، بل هي ملك لرجال عائلتها. وخوفًا من أن يظهر أيّ تشوّه في البضاعة ويخفّض ثمنها تضطرّ الجدّة لاستعارة تنورّة من بيت الجارة لتستر الوحمة على ركبتها وإلّا تلفت الصّفقة. أمّا إذا حدث وسألت الفتاة سؤالًا، على حدّ قول حوريّة، تجاب: “حرام هالحكي!”(ص 65). أمّا الرّجل فلا يعيبه المجتمع، يسمح له كلّ ما يمنعه للمرأة، فتتساءل حوريّة: “ماذا لو فعلت هي ما فعله طليقها الّذي اقتحم بيتها ودخله عنوة؟ كانت أقلّ شتيمة لها “أنّها ساقطة”(ص 54). وبعيدًا عن الحرام الدّينيّ يمثّل الوالد نموذجًا للازدواجيّة ولمن يكيل بمكيالين؛ كان صاحب المبادئ الماركسيّة اللّينينيّة في الشّارع، لكنّه في البيت كان يمارس ما تفرضه الرّجعيّة المطبقة على المجتمع”(ص 117). وعليه تلعب هذه المنظومة دورًا واضحًا فاضحًا في تشرذم هذا المجتمع ووقوعه في أدران الازدواجيّة الهدّامة.

“حرام نسبيّ” هي رواية محكمة بامتياز، تضمّ الثّنائيّات في ثالوث يجمعها ولا يقصيها. إنّها رمزيّة حداثيّة تكثر فيها الفجوات كالغموض والرّمزيّة والتّناصّ والأسطورة والكوميديا السّوداء والإغراب وتفتيت الحبكة التّقليديّة والمبنى الدّائريّ والنّهاية المغلقة/ المفتوحة والاسترجاع وآليّات تيّار الوعي، وغيرها من التّقنيّات الّتي سنعوّل عليها لتأدية الدّلالة. فلقد استطاع الكاتب بذكاء متقن ورمزيّة محكمة أن يناقش ثلاثة أبعاد في شخصيّة واحدة هي حوريّة. تتعالق القضايا كلّها وتصبح ثلاثة وجوه في مسألة واحدة لترمز الواحدة للأخرى. ولمّا كانت الرّواية رمزيّة، مراوغة، متملّصة ومتعدّدة الوجوه، فإنّها تقبل عدّة تأويلات، معتمدة على آليّة التّبديل والتّعويض الّتي يجب على القارئ أن يقوم بها من أجل الوصول إلى الدّلالة. الأمر الّذي يستنفر القارئ في تجاوز عمليّة القراءة إلى إكمال النّصّ وملء الفجوات، ثمّ كتابة النّصّ من جديد حتّى يمسي “القارئ – الكاتب” ويعلن “موت المؤلّف”.

أمّا الأبعاد الدّلاليّة للرّواية فهي:

البعد الأوّل- البعد النّسويّ

 

هي رواية نسويّة في ثنائيّة صراع الذّكورة والأنوثة. ففي ظلّ ثقافة ذكوريّة تعيش المرأة مقموعةً مقابل تعزيز سلطة الرّجل. وتشكّل الرّقابة الاجتماعيّة الدّينيّة تابوًا صارمًا، لكنّ حوريّة تسعى إلى تقويض التّابوات وتثور على كلّ من يقصيها عن صنع القرار، مصرّةً على تقرير مصيرها، رافضةً سلب حرّيّتها، متمرّدةً ضدّ كلّ أغلال الأعراف الذّكوريّة وسلطاتها، مدركةً أنّ الحرّيّة هي لمن يستطيع امتلاكها بقوّة العقل والمعرفة. هي امرأة مثقّفة جامعيّة وصحفيّة. عن علاقة الرّجل والمرأة تثقّفت على كتب نوال السّعداويّ. وفي الحبّ بحثت عن إكسير الحياة وزهرة الخلود كما في أسطورة جلجامش، فتظنّ خطأ أنّها وجدتها في حبّ “هو”، ذاك الشّابّ المثقّف والأسير المحرّر. كان اللّيبراليّ قبل الزّواج لكنّه يصبح السّيّد بعده. وتتحوّل هي وفق قوانينه “هو” إلى تابعة، لم يؤمن بقدراتها ووجد كلّ ما فعلته تحدّيًا لوجوده المسيطر على كلّ شيء.  فيخبو الحبّ المتأجّج ويتّضح لها أنّ الرّجل الّذي انتظرته طوال مدّة سجنه لم يكن هو الّذي تزوّجته. لم يكن هو “هو”.  إذ خرج من السّجن مستلبًا، عاجزًا ومغتربًا. هزمه سجن الاحتلال وسحقه حتّى خرج بلا اسمٍ وبلا هويّة. كان مغيّبًا عن ذاته وغريبًا. وكم كان الكاتب ذكيًّا في منحه الاسم “هو”؛ فهو وإن كان اسم معرفة في علم النّحو إلّا أنّه نكرة في علم الواقع المحتلّ. فهو الضّمير الغائب لأنّه قائم على منطق التّغييب والاغتراب. فالاغتراب من الغربة. والغريب قبل أن نتعرّف إليه يكون غيرَ معروف، مجهول الهويّة ودون اسم. كأنّ السّجن أعاد إليه كلّ شيء إلّا حرّيّته، إلّا “هُواه”؛ لقد حوّل “أناه” إلى “هو” مشوّهًا غريبًا، سارقًا منه ذاته وحوريّته الّتي انتظر؛ فكان سببًا في خسارتها ككلّ شيء في الحياة ليقود نفسه منهزمًا سلبيًّا نحو الزوال والاستسلام. ولهذا لم يعرف كيف يتغلّب على واقعه. فَقَدَ ذكاءه بغبائه المغرور. كان شعارتيًّا يعيش على أطلال ماضٍ لن يخدم البكاءُ فيه إلّا المحتلَّ. قالت له حوريّة يومًا: “يا الله ما أنكدك! هيك البلد.. اقبلها وعيش وخلينا نعيش..!”(ص 214). هي هنا لا تطالبه بالخضوع أو الانهزام بل تريده ذكيًّا “نبيهًا”، واعيًا لمعادلة المحتلّ في استعمار الفكر قبل الجسد. إنّه بطلٌ سلبيٌّ مأزومٌ ظلّ يبكي ما خسره في الماضي وأطلاله إلى أن خسر ما يملك في الحاضر، فقمع بذلك أكبر منبع للقوّة في حياته: حوريّة.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى تماهي صورة المرأة المقموعة كسجينة للعادات والأعراف مع صورة الرّجل السّجين المناضل المقموع في كونه ضحيّة للسّجن. إنّهما يتشابهان في الظلم والقمع وسلب الحرّيّة. إضافة إلى أنّ الاحتلال هو سجن كبير لا يفرّق بين رجل وأنثى. فحتّى الحبّ يتشوّه في ظلّ الاحتلال، ذاك الحبّ الّذي بحثت عنه، والّذي أحبّه جلجامش لإنكيدو صاحبه ولم يكن تابعًا له، مثلما أرادها “هو” زوجة وتابعة، واصفة الحياة التي حلمت بها: “بأنّها حبّ دائم وحرّيّة دائمة على غرار المنظومة الغربيّة للعلاقات”(ص 164). من هنا، تتهشّم العلاقة بينهما خصوصًا بعد عدم تمكّنه من إيجاد عمل لكونه أسيرًا سابقًا، وبعدما فشلت في إنجاب ولد يحمل اسمه، فتأخذ سيطرته بالتّضييق عليها حدّ الاختناق. لم يستطع تحمّل إنجازاتها المهنيّة وتفوّقها عليه مقابل بطالته. فتشتدّ سيطرته عليها، بآرائه وأفكاره، قائلًا لها: “انتي شو بعرّفك! اسمعيني وبس..”(ص 148). كانت تعتقد أنّه سيكون فخورًا بها بباكورة مقالاتها، خصوصًا وأنّه كان فيما مضى مؤمنًا بتحرّر المرأة وبضرورة فضح تخلّف المجتمع الّذي يضطهدها، لكنّ ردّه كان قاسيًا متكبّرًا، إذ قال: “والله جدّ! شو خصّك إنتي بكتابة المقالات؟ ولا صدّقتي ستّك وأبوكي إنّك زكيّة زيادة عن اللّزوم، وبتعرفي تعملي كلشي!  خَلقِت ولد يحمل اسمي مش عارفة تجيبلي! ومبسوطة ع ورقتين حاملتيهم وجاية؟”(ص 184-185). هكذا يضيع الحبّ بين ازدواجيّة العشق والعنجهيّة الذّكوريّة فيتمّ الطّلاق ويتزوّج من أخرى. وبعد الطلاق يعاقبها المجتمع بتقويلاته، وتقع في ألسن النّاس وما يحيكونه من شبهات حول المرأة المطلّقة لأنّ المجتمع يريدها تابعة لا تملك نفسها. وتجد المفارقة عندما تكتشف أنّها وفقًا للمنظور الدّينيّ لم تكن تملك نفسها عندما كانت متزوّجة، ولكن، عندما يتمّ الطّلاق في المحكمة الشّرعيّة تستعيد نفسها وتملكها.

يجبر الكاتب “هو” على أن يقدّم تنازلًا واعترافًا بخطئه، فيسلّمه في الفصل السّابع سلطة السّرد لأوّل مرّة ضمن ما عرّفه بـ”الثّلاثيّة”. ولأنّ الشّكل الفنّيّ يأتي لخدمة الدّلالة وفقًا للمنهج السّيميائيّ أرى أنّ الكاتب ترك له هذه المنصّة لتعزيز موقف حوريّة وأحقّيّتها. وفي هذا نسويّة واضحة. إذ جعله يعترف بقمعه لها بغباء وتسلّط، مدركًا أنّ طلاقه ومسألة وليّ العهد هي وهم أقنعه به المجتمع، فيسعى للالتقاء بها ليعترف لها بأنّها حبّ حياته الوحيد. وأنّها “وجه الحقيقة الّذي يسكن الظّلام”. وفي هذا يملأ فجوة مؤجّلة ويعود بنا إلى ما قاله في الفصل الأوّل تحت العنوان الفرعيّ، موضّحًا أنّ الحقيقة الظّاهرة لها وللنّاس أنّه اختنق من هذا الزّواج؛ هذه الحقيقة هي الّتي ادّعاها كبرياؤه المزيّف. أمّا الوجه الآخر فبقي في الظّلام حتّى لحظة الاعتراف والهزيمة، وقراره بإطلاق سراحها من ملكيّته. لكنّه يموت قبل أن يحقّق رغبة الالتقاء، ولم تكن هذه النّهاية عبثًا. فالنّهاية هنا هي العودة إلى البداية وإغلاق فجوة نصّيّة أخرى بتقنيّة دائريّة محكمة؛ هي انتهاء مرحلة. وهذا ما يصفه “هو” بعبارته الأخيرة في الرّواية: “إنّي اكتملت”. إنّ موته ثمّ اعترافه بفشله في امتلاك شيء لم يصنه من خلال تقنيّة الإغراب والفانتازيا هو انتصار لها وحرّيّة. وهذا تأكيد لها أنّه فشل في الخلود مثلما فشل “جلجامش” في أسطورته. وهنا يأتي هذا التّناصّ لخدمة هذه الدّلالة.  وعلى الرّغم من أنّ المبنى الدّائريّ قد يشير إلى الإغلاق إلّا أنّ الموت في النّهاية لا يعني بالضّرورة نهاية الأمل، بل هو انفتاح مرحلة جديدة من الأمل بموت مرحلة سابقة. ونستدلّ على ذلك بوصف حوريّة لموت حبيبها: “سوف يرقد التّاريخ تحت التّراب”(ص 302). فنجد الانفتاح في المصير المعلّق لعلاقة حوريّة بنبيه، إذ ربّما يكون هو الأمل، ومعه سيتحقّق خلود الحرّيّة.

إنّ لجوء الكاتب إلى الضّمير المتكلّم وتنازله عن سلطة السّرد لصالح حوريّة هو اعتراف بحقّ المرأة في التّعبير عن رأيها؛ فهيمنتها على النّصّ إيحاء لهيمنتها على الواقع. وهذا يصبّ في البعد النّسويّ للرّواية. ولمّا كان “هو” يحاول دائمًا أن يثبط عزيمتها ويكرّر على مسامعها كم هي فاشلة بالكتابة وغير قادرة على الإبداع يأتي الكاتب منتصرًا لها ويتنازل لها عن سلطة السّرد. فتقول حوريّة: “أنا حوريّة الأنثى المرأة الفخورة بأنوثتي، ولست “أخت الرّجال” كما ظنّ أنّه يمدحني بأن يجمعني بمن هم أفضل منّي بحسب رأيه “الرّجال”. لا أجدهم أفضل منّي بشيء، بل مثلي تمامًا؛ كائنات بشريّة لها من القوّة ما لها، وعليها من الضّعف ما عليها، كيف يكون تكريمي بتشبيهي بهم، وكأنّ الرّجل هو الكامل وأيّ مخلوق يكون مثله هو كذلك! ما بكم يا معشر الرّجال؟ أنا استحقّ المديح يا معشر الرّجال لأنّي حوريّة وليس لأنّي أخت أحد”(ص 309-310). وفي هذا تذكّرنا حوريّة بما كتبه نصر حامد أبو زيد في كتابه “دوائر الخوف- قراءة في خطاب المرأة”(1999)، بأنّ الخطاب المنتج حول المرأة في العالم العربيّ المعاصر خطاب في مجمله طائفيّ عنصريّ، بمعنى أنّه خطاب يتحدّث عن مطلق المرأة/ الأنثى ويضعها في علاقة مقارنة مع مطلق الرّجل/ الذّكر. وحين تحدّد علاقة ما بأنّها بين طرفين متقابلين أو متعارضين، ويلزم منها ضرورة خضوع أحدهما للآخر واستسلامه له ودخوله طائعًا منطقة نفوذه، فإنّ من شأن الطّرف الّذي يتصوّر نفسه مهيمنًا أن ينتج خطابًا طائفيًّا عنصريًّا. ليس هذا الخطاب الدّينيّ وحده بل شأن الخطاب العربيّ السّائد والمسيطر شعبيًّا وإعلاميًّا. فالمرأة حين تتساوى فإنّها تتساوى بالرّجل، وحين يسمح لها بالمشاركة فإنّما تشارك الرّجل. وفي كلّ الأحوال يصبح الرّجل مركز الحركة وبؤرة الفاعليّة. وكأنّ كلّ فاعليّة للمرأة في الحياة الاجتماعيّة والثّقافيّة والسّياسيّة فاعليّة هامشيّة، لا تكتسب دلالتها إلّا من خلال فاعليّة الرّجل”(ص 29). هكذا ترفض حوريّة أن تكون إلّا ذاتها ولأجل ذاتها؛ فهي ليست ضعيفة ولا تحتاج حماية من زوجها أو من غيره، فتقول: “لماذا يرى المجتمع أنّ المرأة قاصرة وأنّه يجب أن يكون هناك رجل يعتني بها؟ لماذا على والدها أن يتركها لرجل وهي الّتي استطاعت أن تعتني بكلّ رجال حياتها من دون مقابل؟ لماذا الرّجل هو من يستر ولا يُستر؟ وهو الّذي يفضح ولا يُفضح؟”(ص 278-279).

 

البعد الثّاني: البعد المقدسيّ 

ليس المكان بحيّز ذي أبعاد هندسيّة فحسب، بل تنتفي وتحلّ مكانها ديناميّة الإنسان الخاصّة فيه، فيقول غاستون باشلار: “إنّ “المكان المسكون يتجاوز المكان الهندسيّ”؛ “فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعيّ فقط، بل بكلّ ما في الخيال من تحيّز” ليكون الإحساس بالمكان متعلّقًا بعلاقتنا به. ولهذا يعلن الكاتب تحيّزه للقدس في الغلاف الدّاخليّ؛ فلعشقه لها قرّر أن يكتبها، يوثّق تاريخها، ويشخِّصها في روح الذّاكرة. فاللّغة هي الذّاكرة الإنسانيّة. وذاكرة المكان لا تحيا إلّا بالذّاكرة الجمعيّة الإنسانيّة. ولمّا كانت اللّغة “هي المرآة التي تعكس لنا الصّورة التي يشكّلها الفكر عن الوجود، ودالّة الفكر” كما يقول الفيلسوف هيجل، تكون الرّواية أغنى وأصدق من كتب التّاريخ في سردها للحقيقة.  ولعلّ هذا ما دفع الكاتب للبحث عن معادل موضوعيّ للقدس. فلم يجد أقرب من الأنثى إلى رمزيّة الوطن. ولم يجد أقرب منها إلى جدليّة القمع والحرّيّة، فتكون حوريّة هي المعادل الموضوعيّ لها.

ولعلّه منذ البداية يبيّن لنا الدّلالة السّياسيّة المتخفّية وراء البعد النّسويّ. ويتكشّف لنا ذلك في الحكايتين اللّتين تذكّرتهما حوريّة، والّتي كانت جدّتها حوريّة الكبيرة تحكيهما لها وتكرّرهما. الأولى هي حكاية زواج إسماعيل شقيقها، شقيق حوريّة الجدّة، وموته. ثمّ حكاية زواج الجدّة حوريّة. فبرمزيّة أليجوريّة متقنة خبّأ الكاتب وراء عناصر هاتين القصّتين وأحداثهما الدّلالة المقدسيّة السّياسيّة. وما هما إلّا إيحاء إلى تقسيم الدّول العربيّة في بلاد الشّام والمنطقة. فيأخذنا الاسم إسماعيل إلى “النّبيّ إسماعيل” الّذي كان يلقّب بـ “أبي العرب”. ولعلّ الكاتب استند إلى هذا الاسم ليرمز به إلى “الشّريف حسين” الّذي كان يلقّب بملك العرب، أو قد يقصد به أيضًا ابنه “فيصل”.  كانت للشّريف “حسين” أطماع في بناء دولة عربيّة يحكمها على أنقاض الدّولة العثمانيّة وكانت بريطانيا تعي ذلك جيّدًا. لذلك يُنصَّب “فيصل” ملكًا على العراق في مؤتمر القاهرة الّذي دعت إليه عام 1921- وهذه دلالة عمر إسماعيل واحد وعشرين عامًا حين تزوّج، فتعيينه هذا هو معادل للزّواج – وينصّب “عبد الله” على شرقيّ الأردن، ولتُبقي، أي بريطانيا، على انتداب واحد يخضع لها هو فلسطين. وفي هذا المؤتمر يتمّ تنفيذ وعد بلفور الّذي صرّحت به بريطانيا عام 1917. وهذا تفسير لما قالته الجدّة بأنّه، أي إسماعيل، كان الوحيد الّذي قبل أن يتزوّج عروسًا “عانسًا” بلغت من العمر سبعة عشر عامًا و “لم تتزوّج بعد”. بمعنى هو الوحيد الّذي قَبِل بتنفيذ تصريح بلفور. وهنا يمثّل الزّواج رمزًا لإقامة دولة جديدة. وما قتلُ شوكت ابن الجارة إلّا دلالة على القضاء على الدّولة العثمانيّة؛ فشوكت هو اسم تركيّ يرمز للدّولة العثمانيّة. أمّا غنماته الّتي سرقت فهي أملاك الدّولة العثمانيّة الّتي سلبت.

أمّا القصّة الثّانية والّتي تأتي كمتلازمة لقصّة إسماعيل فهي حكاية زواج جدّتها حوريّة الكبيرة، إذ تزوّجت جدّتها في زواج مشؤوم- كما تقول- لابن مدينة القدس. هي حكاية متلازمة لأنّها تأتي كنتيجة لما تمّ الوعد به في تصريح بلفور 1917.  ومن هنا نستدلّ أنّ الجدّة حوريّة هي فلسطين، وزواجها يعني قيام دولة إسرائيل. وممّا يدلّ على هذا وصفها: “أنّها الوحيدة الّتي تغرّبت”، أي تزوّجت بمن ليس عربيًّا بعكس أخواتها العرب/ الدّول العربيّة. إضافة إلى أنّهم أغمضوا عينيها عندما سلّموها لبيت العريس. وهنا إيحاء إلى التّآمر والتّخطيط دون أن تعرف هي(فلسطين) شيئًا عن هذا.

هكذا أخذ الكاتب عارف الحسيني، وبدءًا بهاتين القصّتين في الرّواية، يوظّف “الزّواج” كرمز لإقامة دولة جديدة أو تنصيب حاكم جديد أو احتلال في البعد السّياسيّ، فيشكّل الزّواج بهذا موتيفًا هامًّا. وعليه، إذا كان الزّواج التّقليديّ وفق المنظور النّسويّ هو التّضادّ من الزّواج القائم على الحبّ وحرّيّة الاختيار فإنّه لا بدّ أن يكون كالاستعمار والاحتلال وفق الدّلالة السّياسيّة.  فالرّجل الّذي يتزوّج زواجًا تقليديًّا دون حبٍّ سيستبدّ بالمرأة ويحوّلها إلى تابعة ويحتلّها. وهكذا تكون إقامة دولة على حساب شعب محتلّ، حيث تغتصب الأرض كما تغتصب الأرواح والأجساد. وبناء على ذلك، تمثّل حوريّة القدس، و “هو” يمثّل سلطة الاحتلال في هذا البعد. فقد تماهى “هو” بقمعه لها واستبداده مع سلطة الاحتلال؛ أرادها تابعة له، لا تملك ملكيّة نفسها. وكذلك هي القدس لا تملك ملكيّة نفسها، فتصادر مثلما تصادر حرّيّة المرأة. وممّا يذكره الكاتب في روايته من عبارات وألفاظ عن حوريّة يوحي بها إلى القدس قول حوريّة بأنّ أقاربها ماتوا، جيرانها يئسوا منها أو تغيّروا أو استبدلتهم إسرائيل. أمّا المستوطنون فلا تهمّهم تصرّفاتها بقدر اختفائها من حياتهم كي يسرقوا مترًا إضافيًّا من حاكورتها ويستولوا على بيتها. أمّا أخوها، من تبقّى لها من أسرتها، فقد هاجر وتركها. ولم يعد يبحث في هذا البلد إلّا عن نصيبه من الميراث، رافضًا أن يأتي لزيارة والده قبل موته. إذًا أوَ ليس هذا دليلًا آخر على أنّ حوريّة هي القدس الّتي تعيش حسرة الأشقّاء والعزلة؟! والقدس، أوَ ليست هي رمزًا للقضيّة الفلسطينيّة الّتي تنشد الخلاص والحرّيّة وحقّ تقرير المصير؟!

وإذا كان موت “هو” في البعد النّسويّ يشير إلى خلاصها من الحبّ الفاشل والأمل في إيجاد حبّ جديد من خلال شخصيّة نبيه فإنّ معنى موته في المستوى السّياسيّ وفي محور القدس قد يدلّ على أمل الخلاص. فلعلّه قصد به ضرورة التّخلّص من النّسبيّة المتآمرة على القدس، النّسبيّة الّتي تأتي من مجتمعها نفسه، محذّرًا من النّسبيّة في الحرام الدّينيّ والاجتماعيّ والسّياسيّ، والّتي من شأنها أن تضعف القدس وتضيّعها مثلما ضاع حبّ حوريّة وتشوّه، فتغترب مثلما اغترب “هو” عن نفسه وذاته الّتي عرفتها حوريّة في البداية، وحتّى لا يصبح مجتمعًا انهزاميًّا مستحبسًا يحمل السّجن داخله. وعليه، يريد الكاتب من مجتمعه أن يكون نموذجًا عن حوريّة، ألّا يدفع نفسه بأعرافه البائدة إلى الهلاك القاتل مثلما يريد له المحتلّ. عليه أن يعيش “بلا نكد”- كما وصفت حوريّة-  بمعنى أن يبنيَ نفسه وألّا يسلّم نفسه للجهل المميت، أن يغيّر ما فيه من تخلّف ونسبيّة. عليه أن يعزّز مصدر القوّة في مجتمعه، أي المرأة. لأنّه ما دام نصف المجتمع مشلولًا بالعجز والقيد سيظلّ النّصف الآخر سجين الجهل والهزائم. وهنا سيجد المحتلّ الأرض الخصبة للتّفوّق والغلبة. إنّ الحرّيّة الفكريّة تضمن الخلاص من كلّ سجن ذاتيّ انهزاميّ، معزّزة الثّقافة وبناء الحضارة والمجتمع. لكنّ الكاتب يدرك أهمّيّة الدّين في مجتمعه ومدى تمسّكه به. ويدرك أيضًا أنّ المجتمعات المحافظة تعتبر الدّيمقراطيّة سلعة غربيّة تتنافى والشّريعة الإسلاميّة. ولهذا لا يجرؤ على تجاهله، لكنّه يدعو له بنموذج العمّ أحمد المتسامح، كريم الأخلاق، النّقيّ من الحرام النّسبيّ، لا بتديّن عبد الكريم المزيّف، ولا بأخيها المهاجر الّذي يتخلّى عنها وعن والده العاجز. وفي المقابل، وللمفارقة، لا يهمّه في البلد إلّا ما تبقّى له من ميراث.

ولعلّ حوريّةَ الّتي فرضت بقوّتها الفكريّة وثقافتها وعنفوانها على “هو” بضرورة مكاشفة الذّات ومحاسبتها والاعتراف بالذّنب كخطوة قبليّة لأيّة مصالحة حقيقيّة مع الذّات، ومع الآخر في نهاية الرّواية، تشير إلى أمل في الخلاص على الصّعيد السّياسيّ. أمّا اختيار اسم “حوريّة” فلم يكن عبثًا، فربّما قصد به المرأة الحسناء أو حوريّة البحر؛ الكائن الأسطوريّ الجميل. وهو لعشقه للقدس وتحيّزه لها رآها الأجمل. إلّا أنّ الدّلالة الأهمّ برأيي على المستوى الرّمزيّ هي: “الحرّيّة”. وكأنّي بالكاتب لم يجد تلاعبًا لمقصديّته أفضل من هذه الكلمة، فهي الاشتقاق الأقرب للكلمة. فإذا تمعّنّا بالاسم “حوريّة” نجده جناسًا غير تامّ لكلمة “حرّيّة”. فيتلاعب بالاسم، ويخفي مراده خلف مسألة حذف حرف وتضعيف حرف آخر وتغيير في مدّ النّطق والصّوت، إذًا هي “ح-و-ريّة” = “حرّيّة“.

ومثلما نجح الكاتب في اختيار كلّ العتبات النّصّيّة نجده يجيد اختيار رسم الغلاف أيضًا. إذ تضمّن الغلافُ صورة جانبيّة لوجه أنثى، باللّون الأسود الطّاغي، يظهر كظلّ للوجه. وعلى أعلى الرّأس امتدّت القدس، ثمّ في وسط الصّورة نجد زهرة الزّنبق البيضاء تضيء بوهجها ظلمة السّواد. هكذا يلخّص الغلاف في جدليّة تضادّ لونيه دلالة الرّواية. أمّا لماذا الأبيض؟ فلأنّه رمز الطّهارة والأمل في لجّة السّواد؛ سوادِ الأعراف والقهر والحرام النّسبيّ. يشير إلى طهارة حوريّة مقابل ظلم الأعراف. ثمّ يأتي الزّهر كتعبير عن الحبّ. وهنا يرتبط الورد بأسطورة جلجامش الّتي بنت حوريّة نظريّة الحبّ عليها، باحثة مثل جلجامش عن زهرة الخلود وإكسير الحياة. يُذكر أنّ هذه الصّورة لزهر الكالا/ البوق، وهو نوع من الزّهور يرمز للحبّ والعشق فعلًا، وليس لزهر الزّنبق. فالكاتب أخطأ في اعتبارها من زهر الزّنبق كما ورد في أحداث الرّواية، حيث يشيع خطأً اعتبارها من الزّنبقيّات. إلّا أنّه برأيي أصاب في اختياره هذا النّوع، إذ يصلح زهر البوق لدلالة أخرى وهي: الصّوت. فالبوق كما يعرف يستخدم لرّفع الصّوت. وهنا رُسم بشكل خاصّ على مستوى الحنجرة. ولعلّه يقول بذلك: إنّه صوت الأنثى ممزوجًا بصوت القدس.  هذه صرخة حوريّة في ظلّ القهر والظلم؛ هذه صرخة القدس تنشد الحرّيّة والسّلام. صيحة مدينة في صيحة أنثى.

وبناء عليه، ما هي دلالة هذا الزّهر الّذي تعامل الكاتب معه على أنّه الزّنبق الأبيض في حدثين مهمّين في الرّواية؟ أقصد في الحدث الأوّل عندما جاء “هو” إليها محاولًا إرجاعها إلى أحضانه في ذكرى يوم ميلادها، وقبل موته بستّ سنوات، وبعد أن طلّقها وتزوّج وأنجب. جاءها يحمل باقة من الورد الأبيض لأنّه لم يوفّق في إيجاد الزّنبق المنشود، جاءها “وما زال مختبئًا بزيّ الرّجل العاقل المخلص المظلوم بعد الفراق”(ص 44). والسّؤال هنا: لماذا قرّر الكاتب ألّا يجد “هو” هذا الزّنبق- (نعني الكالا بناء على الرّسم في الغلاف) – ووجد زهرًا أبيض من نوع آخر غير زهر الكالا/ البوق؟ يرتبط هذا السّؤال بالحدث الثّاني: لماذا تقرّر هي وتصرّ – أي حوريّة –  عندما تأتي لوداعه عقب وفاته أن تحضر معها الزّنبق (الكالا)؟

في السّؤال الأول، إذا وجد “هو” الكالا/البوق ومنحها إيّاه فهذا سيدلّ على أنّه تنازل ومنحها صوتها وأعطاها حرّيّتها وحرّيّة صنع القرار. وهذا ما لم يكن ليحدث بعد، خاصّة أنّه جاءها غير نادم أو معتذرًا عن قمعه لها، بل جاءها باستعلاء وبقوّة سيّد تجاه تابعه. وحين ترفض يفتح الباب بقوّة، يستشيط غضبًا، يصرخ ويركل الباب بعنف وغضب، معتقدًا أنّه لا يزال يمتلكها إلى الأبد، وأنّه جاء يستردّ ملكًا له أو تابعًا له، ومن حقّه أن يتصرّف بها كما يرغب ويشاء. ولأجل هذا، حين تنتصر هي ولا يستطيع احتلالها يقول لها في النّهاية: “حاولت جاهدًا احتلاله ولم أنجح! نساء الأرض كلّهنّ نساء، وأنت مارد يكتسي الجورجيت الأسود، فلا يكسل ولا يخشى ولا يهرب، وعشقه للحرّيّة لا ينضب”(ص 312). وهنا، قبل أن نوضّح قصده بقوله هذا، نشير إلى أنّ الهاء في لفظة “احتلاله” برأينا تعود إلى قلبها. أمّا القصد بقوله – في هذا البعد المقدسيّ – هو أنّ القدس عصيّة عن الاحتلال، وهي ليست إلّا ماردًا لا يكسل ولا يهرب، ساعيةً لأجل حرّيّتها. أمّا حين تأتي حوريّة إليه وهي تحمل زهر البوق لتقف أمام جثمانه فقد بدت وكأنّها تقول له: “ها أنا استردّ صوتي وأحمل زهر الكالا لأؤكّد لك أنّني أنا الّتي ما زلت أحيا. وصوتي، أي صوت الحرّيّة، هو الّذي انتصر. أمّا الموت فهو من نصيبك أنت. الخلود لي وصوتي ملكي أنا. أمّا أنت واستبدادك واحتلالك فإلى الزّوال!”.

لم يكن عبثًا أن جعل الكاتب حوريّة كاتبة، سلاحها الكلمة في زمن الصّمت والقهر، واعيًا لدور القلم في تعميق روح التّمرّد ضدّ الظّلم والاستبداد. فينجح برسمة واحدة في الغلاف، بثنائيّة الأسود والأبيض، أن يتحدّى الثّالوث المحرّم، ثالوث القدس والمرأة.

 

البعد الثّالث: البعد العربيّ

في هذا البعد هي رواية تيه وضياع كلّ إنسان عربيّ يرزح تحت سقف القمع في ظلّ أنظمة حكم مستبدّة، في ظلّ أنظمة تسيطر على الشّعوب، وتدخلهم إلى متاهة القلق والقهر والعقم الإنسانيّ.

إنّ متابعة حوريّة كبطلة في هذا النّصّ السّرديّ في محصّلة علاقاتها مع بقيّة معطيات النّصّ وأدواته اللّغويّة والشّكليّة والأسلوبيّة واعتبارها سيميائيّة تمثيليّة هو ما ينقلنا من المعاني النّصيّة إلى الدّلالات القرائيّة. وبناء على ذلك، لا تمثّل حوريّة ذاتها لذاتها وبذاتها، لأنّها كائن سيميائيّ في وظيفتها وليست حقيقيّة في أصلها. وإذا كنت قد اقترحت دلالتين لحوريّة حتّى الآن: “حوريّة”: رمز للمرأة، ورمز للقدس، وما يشتملان عليه من دلالة الحرّيّة، فإنّي أقترح دلالة أخرى، وأجدها لا تقلّ أهمّيّة، وهي أنّ حوريّة تمثّل الشّعوب العربيّة الّتي تنشد الحرّيّة والدّيمقراطيّة في ظلّ أنظمة حاكمة مستبدّة، لتتقاطع أنظمة الحكم في ماهيّتها مع ماهيّة الاستعمار والاحتلال. وعليه، يكون “هو” رمزًا لنّظام الحكم/ الحاكم المستبدّ.

إنّ حوريّة التي فرحت بالحبّ بداية هي الشّعوب العربيّة التي فرحت لحكوماتها الوطنيّة بعد تحرّرها من الاستعمار، فتجدها بخيبة قد تحوّلت إلى أنظمة استعماريّة. ولهذا كان زواجها تقليديًّا. فالحاكم المستبدّ يشبه المستعمر والمحتلّ كذلك. يشبه الرّجل التّقليديّ الّذي يبحث عن السّحر في تدفّق دم المرأة من غشاء البكارة يوم الزّواج، مفتخرًا بسيادة ذكورته، كمثل الحاكم المستبدّ الّذي يعشق نزف الدّماء في علاقته مع شعبه لأجل تثبيت حكمه ولا يهمّه مصالح الشّعب أو كرامته. وهو الحاكم الذي يخشى شعبه المثقّف لأنّه يهدّد مصالحه فيقمعه ويدجّنه، مثلما حاول “هو” أن يفعل مع حوريّة، حيث قمع قلمها واستهتر بمقالاتها الصّحفيّة. يخشى الحاكم فكر الشّعوب فيدجّن تفكيرها بتكفير أشدّ. ولذا يتماهى هذا الحاكم القامع مع السّلطة الدّينيّة الاجتماعيّة الّتي تحلّل وتحرّم وفقًا لمصالحها، كشخصيّة عبد الكريم. الأمر الّذي يؤكّد على تماهي سلطات الثّالوث المحرّم: السّياسيّة والدّينيّة والاجتماعيّة في الدّول العربيّة.

ولعلّ هذا الزّواج السّياسيّ/ تنصيب حاكمٍ يصفه الكاتب بالزّواج التّقليديّ الّذي لا يتقاطع أبدًا مع مفهوم الحبّ أو علاقة الحبّ، معبّرًا عن هذا بمقولة أوردها تحت عنوان الفصل الخامس: “الحبّ والزّواج التّقليديّ خطّان متوازيان لا يلتقيان إلّا باعوجاج أحدهما”، أي حتّى يلتقي أحدهما مع الآخر يجب انكسار أو اعوجاج أحدهما. وهنا يقصد بالانكسار؛ إمّا انكسار النّظام القمعيّ المحتلّ لرغبة شعبه في صنع القرار، أو انكسار الشّعب ورضوخه للحاكم القمعيّ الّذي يحتكر السّلطات كلّها، سالبًا الحرّيّة من شعبه. ولمّا كانت العلاقة بين الطّرفين قائمة في الأساس على موازين القوى وسيطرة القويّ على الضّعيف، وغير قائمة على الحبّ والاختيار، فإنّه لا بدّ أن يكون الالتقاء- إنْ حدث- مبنيًّا أصلًا على انكسار وهزيمة وخضوع طرف لآخر.

ولهذا ترفض حوريّة – أي الشّعوب العربيّة – أن يكون زواجها تقليديًّا، كزواج صديقتها سميرة من عبد الكريم. فعبد الكريم هو رمز للحاكم الّذي يتخفّى وراء الدّين ويستغلّه لمصالحه ولِما يخدم تثبيت كرسيّه. فهو الّذي بحث بدءًا من اللّيلة الأولى عن الدّماء وسفكها. وإذا كان الرّجل يمثل الحاكم العربيّ فإنّ والدها يمثل صورة الحاكم صاحب المبادئ الماركسيّة اللينينيّة (ضمن ما يسمح به المجتمع العربيّ طبعًا)، لكنّه، في البيت، كان يمارس ما تفرضه الرّجعيّة المطبّقة على المجتمع”(ص117)، ليكيل بمكيالين وفق ما تمليه مصالحه. وعندما تظنّ حوريّة أنّ أساس علاقة الزّواج من “هو” كانت بدافع الحبّ، وأنّه سيمنحها الحبّ الدّائم والحرّيّة الدّائمة الّتي تتوق إليها روحها، فيبني لها بيتًا ديمقراطيًّا على غرار المنظومة الغربيّة للعلاقات، تجد نفسها قد خدعت من قبل شخص قد تحوّل إلى سيّد وحاكم قامع، لكنّها لا تنكسر ولا تعوّج رافضة العودة إليه أو استمرار هذا الزّواج.  كذلك على الشّعوب العربيّة أن تتمرّد وتثور على كلّ حاكم قامع لها. عليها أن تبحث عمّن يحفظ لها حريّتها ويحكمها “بحبّ” ويمنحها القدرة على الاختيار، وحرّيّة صنع القرار ولا يكسرها.

ولأنّ الكاتب جعل الطّلاق نتيجة لزواج حوريّة ثمّ موت “هو” (الزّوج) فهذا إيحاء إلى أنّ الشّعوب العربيّة ستجد خلاصها “ليرقد التّاريخ تحت التّراب”. إلّا أنّ “خلاصة تجربة هذه الشّعوب في الحياة”- كما يشير الكاتب من خلال حوريّة- أقرب إلى الفشل والعجز بسب قهر الحكّام و”أمزجة الأقوياء الذّكور”، ولذا “لم تكن حكيمة كفاية لتنصح نفسها قبل غيرها ولتقطف ثمار خبرة تسدّ بها جوعها لمعرفة الحقيقة الوحيدة الّتي تنفي وجود الحقيقة الّتي أرادها لها الذّكور”(ص 276). ممّا يعني أنّها لعجزها لم تستطع الوصول إلى الحقيقة النّاصعة، بل أرادوا لها أن تخضع لحقيقتهم هم، تلك الحقيقة الّتي تدجّن الشّعوب وتكبت حقوقهم وتعزّز سلطة الحاكم. وليست حقيقة هؤلاء الحكّام إلّا حقيقة تسكن في الظّلام، في ظلمة الاضطهاد والاستبداد واحتلال الحرّيّة.

ولما كان “هو” في البعد النّسويّ قد قمع حوريّة بغطرسته وتملّكه، حوريّة الّتي قد تكون أكبر منبع ومصدر للقوّة والبناء في حياته، فإنّه “هو”- أي الحاكم المستبدّ في هذا البعد- قد قمع حرّيّة الشّعب فمنع بناءه وتطوّره وكان سببًا في خنقه. ولهذا لم تستطع حوريّة الإنجاب في زواجها من “هو”، فالزّواج التّقليديّ الّذي يقوم على الكبت والقهر والقمع لا يولّد إلّا العقم؛ عقم الحياة، عقم الفرح والبناء والتّقدّم، وبالمقابل سيقود إلى الهدم والهزيمة والاستسلام. ولعلّ “هو” عندما يذكر جلجامش في رقدة الموت، قائلًا لحوريّة بأنّه لم ينجح في الخلود كما لم ينجح ملكها جلجامش، يؤكّد هذا البعد العربيّ السّياسيّ. إذ يُعرَف عن جلجامش في أسطورته أنّه كان ملكًا مستبّدًا قامعًا، فيقتل من يعارضه ويغتصب من يريد من نساء شعبه “أوروك”. إلى أن يتعارك مع إنكيدو مخلّص الشّعب من هذا العذاب، ثمّ يصبحا صديقين، لكنّ إنكيدو يموت، فيحزن جلجامش ويقرّر البحث عن زهرة الخلود لأجل صديقه، لكنّه يفشل في إيجادها فيعود خائبًا، فينصحه حكماء أوروك بأنّ الطّريق الوحيد للخلود هو في العمل والعدل والبناء، وسلوك نهج جديد في الحياة وفي طريقة تعامله مع المواطنين. ولهذا يوظّف الكاتب هذه الأسطورة لتخدمه في إيصال فكرته من خلالها. إذ تتقاطع هذه الأسطورة مع واقع الشّعوب العربيّة في قمع حكّامها واحتلالها وحاجتها إلى حاكم يبني شعبًا ولا يهدمه بسلب حرّيّته، حاجتها إلى الأمن والسّلام والعدل والدّيمقراطيّة عبر إشراك جميع فئات المجتمع المدنيّ في صنع القرار. إنّها تنشد الحرّيّة. ولهذا تقول حوريّة (الشّعوب العربيّة): إنّها “تحلم بإنسان يقدّس بهاءها ويشحذ همّته بلمسة يده الدّافئة.. ويصنع لها السّعادة بصفته رجل البيت الّذي توكل له المهامّ الصّعبة”(ص 286).  وما “رجل البيت” هنا إلّا إيحاء  إلى القائد الّذي سيدير شؤون دولتها. ما دمنا نتحدّث عن الزّواج/ الزّوج كمعادل للنّظام/ الحاكم.

ولعلّ تعليق مصير علاقة الحبّ بين حوريّة بنبيه في النّهاية وانفتاح الرّواية قد يشير إلى وجود الأمل، على الرّغم من المبنى الدّائريّ، والانتهاء من حيث نقطة البدء. فربّما سيكون نبيه بنباهته ذلك الحاكم المنتظر. ولعلّ عرض الزّواج الّذي يعرضه عليها، يشير أوّلًا إلى تحديد وجه العلاقة المقترحة في هذا الصّدد، وهي الحرّيّة في الاختيار وصنع القرار.  إضافة إلى أنّه في عرضه هذا يؤكّد لها أنّه يبحث عن شريكة كاملة برغبتها الخاصّة، ولن يُكرهها على ذلك؛ فلم يأتِ متعاليًا مستبدًّا كما فعل “هو”، بل أتاها واعيًا متفهّمًا محترِمًا قرارتها، قائلًا لها: “أبحث عن امرأة تبحث عن رجل يُكملها لا يعولها، رجل تحمله ويحملها، لا يسحبها خلفه.. أبحث عن جميلة الرّوح.. تثأر لكرامتها.. أبحث عن تلك الواحدة الّتي يخشى منها الرّجال الشّرقيّون في العادة؛ لأنّهم لا ينجحون في التّحكّم بها، ولا تحلم أن تتحكّم بهم….. أبحث عن امرأة تصنع الحياة معي.. “(ص 254- 255). هكذا يتّضح أنّ نبيهًا يعي جيّدًا أنّ العلاقة بين الشّعب وحاكمه يجب أن تكون زواجًا غير تقليديّ مبنيًّا على الحبّ والاحترام والحرّيّة. ولذا يبحث عن شعب حرّ يفرض نفسه على الحاكم، بمعنى أنّ الشّعب هو مَنْ يختار حاكمه، ولا يفرض الحاكم نفسه على شعبه بقوّة الاحتلال والاستعمار. هو يريد شعبًا حرًّا يمارس قوّته، ويعي دوره ومسؤوليّته وضرورة حرّيّته في صنع القرار. يريد شعبًا قويًّا عنيدًا يرفض أن تملى عليه الحقيقة، حقيقة الظّلام الّتي يريدها الحاكم ويحتكرها. ولمّا كانت حوريّة: “متمرّدة وقويّة، وليست من النّساء المستكينات والمسالمات، والويل لمن يتجرّأ على معاكستها أو التحرّش بها”(ص 182)، فإنّها لن تنكسر في زواج تقليديّ لنبيه بغير إرادتها، بل قد يلتقيان في علاقة حبّ وحرّيّة، مثلما توحي الرّواية.

ومن هنا، إذا كانت حوريّة/ الشّعوب العربيّة على هذا الصّعيد هي المتمرّدة الثّائرة العنيدة الّتي لا تضعف ولا تستكين فلا بدّ أن تحقّق لنفسها الغلبة والانتصار. وهذا ما يؤكّده العمّ أحمد في قوله لحوريّة: “النّاس كالنّاس والأيّام واحدة والدّهر كالدّهر والدّنيا لمن غلبا”، “وأنت ستغلبين دومًا يا بنيّتي”(ص 273). ولعلّنا إذا عوّضنا هذا في الحدث الأخير وما قاله “هو” عن فشله نجد التّأكيد على هذه الغلبة مقابل فشله هو، إذ قال: “حاولت جاهدًا احتلاله (قلبها) ولم أنجح! نساء الأرض كلّهنّ نساء، وأنت مارد يكتسي الجورجيت الأسود، فلا يكسل ولا يخشى ولا يهرب، وعشقه للحرّيّة لا ينضب”(ص 312). إذًا، إذا كانت طبيعة الحكم في “الزّواج التّقليديّ”/ الحكم المستبدّ كالاحتلال، فإنّه، أي “هو”، قد عجز عن تحقيق ذلك لتبقى الشّعوب العربيّة ساعية نحو حرّيّتها. وهكذا عندما تحمل هي البوق تؤكّد أنّ صوتها هو المسموع، وهو الحرّ الحيّ، وله الخلود وإكسير الحياة. أوَ لم تقل حوريّة في الرّواية: إنّ “طموحها أن تهوي من طائرة صغيرة نحو الأرض لبعض ثوانٍ دون قيود قبل أن تفتح المظلّة”؟ إذًا، حلم حوريّة في البعد النّسويّ ليس إلّا حرّيّة المرأة في صراعها مع الرّجل في مجتمعات ذكوريّة تقليديّة محافظة قامعة. وحلمها في البعد المقدسيّ ليس إلّا حلم القدس في تحرّرها من الاحتلال وحقّ تقرير المصير. أمّا في البعد العربيّ فليست حوريّة إلّا الشّعوب العربيّة في سعيها نحو الحرّيّة، وتوقها إلى التّخلّص من أنظمة شموليّة مستبدّة ذات وجه استعماريّ محتلّ، تحتكر قرارات شعبها وخياراته. هي إذًا حوريّة في كلّ أبعادها؛ في صرختها المتمرّدة الثّائرة ضدّ ظلم الثّالوث والحرام النّسبيّ الاجتماعيّ والدّينيّ والسّياسيّ؛ فيكفيها قيدًا وقمعًا! إنّها “ح-و-ريّة” هي “الـحرّيّة“.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*