بين الموضوعات وخصائص المضمون والملامح الأسلوبيّة
دكتورة رنا سعيد صبح
يشغل الحوار حيّزا واسعا في بناء قصّة الأطفال لدى الأديب سليم نفّاع، إذ اعتُمِد الحوار في كثير من قصصه آليّةً مركزية وبارزة، ما يشير إلى أهميته من حيث المفهوم والقيمة لدى الأديب ولدى المتلقّين من الأطفال والأهلين.
أصدر الأديب سليم نفّاع ما يربو على العشرين قصّة للأطفال، ونشط من خلال موقعه في إدارة مكتبة بلدية شفاعمرو العامّة في إقامة ندوات ودورات ومشاريع ثقافيّة تهدف إلى تنمية الثّقافة بشكل عام، وثقافة الطّفل بشكل خاص، وإلى تحفيز مجتمعنا على المطالعة. وشاركَتْ معظم قصصه في مسيرة الكتاب في المدارس العربية في الأعوام الماضية، بغية تشجيع المطالعة.
تهدف المقالة إلى تتبّع ملامح أسلوب الحوار في قصص الأديب سليم نفاع، وإلى رصد بعض المضامين التي استدعت وجوده أو الاتكاء عليه من خلال ثلاث قصص من رصيد الأديب الغزير: أَجْمَلُ اللُّغَاتِ (2015)، نسرين زهرة من بلدي (2017)، لُبْلُب وَعَنْتَر (2018).
الحوار في اللغةً والمصطلح
الحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإلى الشيء، وفعله: حارَ إِلى الشيء وعنه حَوْرا ومَحارا ومَحارَة وحُؤورا أي رجع عنه وإِليه. والحَوْرُ: النقصان بعد الزيادة لأَنه رجوع من حال إِلى حال، وقيل: كلّ شيء تغير من حال إِلى حال. وأَحارَ عليه جوابه: ردَّه، والاسم من المُحاوَرَةِ الحَوِيرُ. والمُحاوَرة: المجاوبة. والتّحاوُرُ: التّجاوب؛ وتقول: كلَّمتُه فما أَحار إِليَّ جوابا وما رجع إِليَّ حَويرا ولا حَويرة ولا مَحورة ولا حِوارا أَي ما ردَّ جوابا. واستحاره أَي استنطقه. والمُحاوَرةُ: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة.
أمّا في المصطلح، فالحوار هو تبادل كلام بین شخصیتین أو أكثر من شخصیات النص الأدبي. وهو من أهم أركان قصص الأطفال إلى جانب السرد والوصف، فالحوار يعكس أنماط التفكير وذهنية الشخصيات المتحدّثة، ويحدّد دورها، ووظائفها وطريقة حياتها، كما أنه يعرض آراء الشخصيات في القضايا المتناولة، ويعينها في التعبير عما يجول في ثناياها من مشاعر، وفي كشف ملامح العلاقات بين المتحاورين، ومدى تشابكها، ويسهم في تطوير الحدث ونقله من محطة إلى أخرى.
وللحوار في النصّ الأدبي دور صوتيّ مثير، إذ يُحدث نغمة جرّاء احتوائه الأسئلة والإجابات أو التعبير عن مواقف، لتحمل كلّ جملة رنينها وشحنتها الشعوريّة التي تعزّز عنصر التشويق.
موضوعات الحوار في القصص “أَجْمَلُ اللُّغَاتِ”، و”نسرين زهرة من بلدي”، و”لُبْلُب وعنتر”:
قارئ القصص الثلاث يلحظ حضور الحوار على بنيتها، فالحوار وإن قلّ لا يغيب، باعتباره أهم وسائل الإقناع، والتعبير عن مشاعر الشخصيات وأفكارها، ويعتبر لبنة هامة في التواصل فيما بينها.
تتحدّث قصة “أَجْمَلُ اللُّغَاتِ“، عن زيارة عائلة إنجليزية لإحدى البلدات العربية. وأثناء الزيارة طَلَبَ الضَّيْفُ من مضيفه أَنْ يرَافِقَهُ في جَوْلَةٍ فِي البلدة. في الجولة مروا عبر الحقول وأشجار الزيتون، والشوارع. أخذ المضيف يشرح عن تاريخ بلدته، بينما ضيفه كان يُصْغِي باهْتِمَامٍ، محدّقا بالْلافِتَاتِ الْمُلَوَّنَة المنصوبة على مداخل البلدة، وقد كُتِبت باللغة الانْجْلِيزِيَّةِ بدلا من اللغة العربيّة، ما أثار فضول الضيف وأسئلته، في حوار ناقد، أسهم في نقل مكانة اللغة العربيّة إلى موقع مشرّف لدى المتحدّثين بها، إذ كان لحديث الضيف الغريب تَأْثِيٌر عميق في نفس المضيف/ الراوي:
سَأَلَ الضَّيْفُ: قُلْ لِي يَا سَامِي، وَأَجِبْنِي عَلَى كَلامِي، هَلْ نَحْنُ حَقًا فِي بَلْدَةٍ عَرَبِيَّةٍ؟
وَأَجَبْتُ عَلَى الْفَوْرِ: طَبْعًا يَا ضَيْفِيَ الْعَزِيَز، لِمَاذَا هَذَا السّؤّالُ الْعَجِيبُ الْغَرِيبُ؟
الضَّيْفُ: نَحْنُ فِي مَدْخَلِ الْبَلْدَةِ، وَلاَ أَرَى أَيَّةَ لاَفِتَةٍ بَهِيَّةٍ، تُشِيرُ إِلَى أَنها بَلْدَةٌ عَرَبِيَّةٌ، بَلْ أُشَاهِدُ لاَفِتَاتٍ باللُّغَةِ الانْجِلِيزِيَّةِ، هَلْ يَزُوُر بَلْدَتَكُم، سُيَّاحٌ مِنْ غَيْرِ أُمَّتِكُم؟
وَأَجَبْتُ بِلا تَرَدُّدٍ: لا تُوجَدُ أَيَّةُ سِيَاحَةٍ فِي بَلْدَتِي أَبَدًا، وَإِنْ كَانَتْ فَهِيَ قَلِيلَةٌ جِدًا.
وَقَالَ الضَّيْفُ وَقَدْ بَدَتْ عَلامَاتُ الدَّهْشَةِ فِي عَيْنَيْهِ: لِمَاذا الإِعْلانُ عَنِ الْمَحَلاَّتِ التِّجَارِيَةِ، باللُّغَةِ الانْجِلِيزِيَّةِ؟
وابْتَسَمْتُ مُجَامَلَةً للضَّيْفِ،
وَقُلْتُ مُهَدِئًا وَمُلَطِّفًا: صَبْرًا، يَا صَاحِبي سَتَرَى مَا يَسُرُّك.
الضَّيْفُ: نَحْنُ فِي بِلاَدِنَا نَعْتَزُ بِلُغَتِنَا، وَنَسْتَعْمِلُهَا فِي شَتَّى مَرَافِقِ حَيَاتِنَا، وَأَنْتُمْ لِمَاذَا تَتَجَاهَلُونَ لُغَتَكُم، وَحَضَارَتُكُم عَظِيَمةٌ، نَشَرَتْ عُلُومَكُم، فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الدُّنْيَا؟
وَأَجَبْتُ: رُبَّمَا الإِعْلاَنُ باللُّغَاتِ الأَجْنَبِيَّةِ، أَجْمَلُ للنَّاظِرِ، وَأَكْثَرُ تَقَبُلاً لِلْخَاطِرِ.
الضَّيْفُ: لاَ أَرَى فِي لُغَتِكُم مَا يَعيبُ، فَهِيَ رَسْمٌ وَزَخْرَفَةٌ للْبَعِيدِ والْقَرِيبِ.
وَقُلْتُ لَهُ: مُمْكِن أَنَّ اللُّغَةَ الانْجلِيزِيَّةَ أَكْثَرُ عَالميَّةً.
الضَّيْفُ: اللُّغَةُ تُنْشِئُ شَخْصِيَّةً قَوِيَّةً، وَإِذَا أَحَبَّ الإِنْسَانُ لُغَتَهُ، زَادَتْهُ ثِقَةً بِنَفْسِهِ وَرِفْعَتِهِ.
في قصة نسرين زهرة من بلدي، يدور الحوار في أربعة محاور؛ فالمحور الأول: الحوار بين نسرين وأمها، فنسرين الفتاة المحبة للاستطلاع يثيرها طعم النباتات التي تجعل لمائدة الفطور نكهة فريدة، فتبدأ في طرح الأسئلة والأم تجيب بكل احتواء من أجل تعليم ابنتها. والحوار هنا تعليميّ يبني منظومة المعلومات لدى الفتاة:
سَأَلَتْ نِسْرينُ أُمَّها: “مِنْ أَيْنَ نُحْضِرُ يا أُمّي الْحَبيبَةَ هَذِهِ النَّباتاتِ الَّلذيذَةِ الطَّعْم؟”.
أَجابَتِ الْأُم: “يا بُنَيَّتي، هَذِهِ النَّباتاتُ كُلُّها، نَجِدُها في سُهولِ وَجِبالِ بِلادِنا الْجَميلَة”.
المحور الثاني بين نسرين وصديقاتها. وفيه تُشبع نسرين فضولها فتسألهنّ عن وجهتنّ، وهنّ يجبنها بأنهن يرغبن بالاستمتاع بجولة في الطبيعة خاصّة وأنّهنّ في فصل الربيع، وبعدها تأخذ نسرين قرارًا بمشاركتهنّ الجولة:
– “إِلى أَيْنَ أَنْتُنَّ ذاهِبات؟”.
فَأَجَبْنَ: “نَحْنُ في فَصْلِ الرَّبيعِ، المليءِ بالْأَزْهارِ الْبَديعَةِ، وَنُريدُ التِّجْوالَ في هذهِ الطَّبيعَةِ الْقَريبَةِ مِنْ بَلْدَتِنا، تَعالِي نَتَمَتَّعُ بِمَنْظَرِ الْأَشْجارِ وَعِطْرِ الْوُرود”.
نِسْرين: “هَيّا بِنا نُشاهِدُ مَنْظَرَ الطَّبيعَةِ السَّاحِرَةِ، فَيُنْعِشُنا النَّسيمُ الْعَليل”.
المحور الثالث: بين نسرين وزميلاتها من جهة والراعي من الجهة المقابلة، فهنّ يسألنه عن اسم الأزهار الجميلة في البراري، وهو يجيبهنّ، ليضيف إلى خزائن معلوماتهنّ:
“ما هَذِهِ الْأَزْهارُ الزَّاهِيَةُ ذاتَ الرّائِحَةِ الزَّكِيَّةِ الْعَطِرَة؟”.
“يا بُنَيَّتي هَذِهِ أَزْهارٌ لا نَجِدُها إِلّا في البَراري.”
“ما أَسْماءُ هَذِهِ الزَّهْرات؟”.
“هَذِهِ زَهْرَةُ عَصا الرّاعِي، وَتِلْكَ زَهْرَةُ شَقائِقِ النَّعْمانِ الْمُسَمّاةِ (بَرْقوق)”.
والمحور الرابع: بين نسرين وأمها، وهو حوار تقييمي، بحيث تسأل الأم ابنتها عن الجولة وأجابتها ابنتها إجابة تقيّم فيها النزهة وتعدّد أنواع الشجر والنبات التي رأتها وتعرّفت إليها هي وزميلاتها:
رَجَعَتْ نِسْرينُ إِلى أُمِّها في آخِرِ النَّهارِ، وأَخَذَت أُمُّها تَسْأَلُها بِلَطافَةٍ: “كَيْفَ كانَتِ النُّزْهَةُ في الطَّبيعَةِ، وَماذا شاهَدْتِ يا حَبيبَتي نِسْرين؟”.
نِسْرين: “يا أُمي الْعَزيزَةَ، قَدْ تَعَرَّفْنا عَلى أَنْواعِ الْأَشجارِ والْأَزهارِ والنَّباتاتِ، وَشاهَدْنا نَبْتَةَ الزَّعْتَرِ، الَّتي نَأْكُلُها كُلَّ صَباحٍ بِشَهِيَةٍ، لأَنَّها تُقَوِي الذّاكِرَةَ، وَأَنا سَأَدْعو طُلَّابَ مَدْرَسَتي لِلتَّنَزُّهِ في الطَّبيعَةِ الْخَلّابَةِ، حَتّى نُشاهِدَ وَنَلْمِسَ وَنَشُمَّ وَنَتَذَوَّقَ خَيْراتِ بِلادِنا الْحَبيبَة.
في قصة “لُبْلُب وَعَنْتَر”، الحوار متطوّر، لا يحافظ على الوتيرة نفسها إذ يبدأ في محطة وينتهي في محطة. في القصة يدور الحديث عن الْفَأْرُ لُبْلُب وَالقِطُّ عَنْتَر، اللذَين يَعيشانِ في دارِ فَلَّاحٍ مُجْتَهِدٍ وَنَشيطٍ، تَطْفَحُ أَرْضُهُ بالخَيْراتِ، وَالمَحاصيلِ الوافِرَةِ، فكان لُبْلُب يتجوّل في دارِ الفَلّاحِ، وَيَعْبَثُ في مُحْتَوَياتِها، وَيُمَزِّقُ الأَكْياسَ المُمْتَلِئَةَ بِالحُبوبِ وَالمَحاصيلِ. وكانَ عَنْتَر القِطّ المُدَلَّل، يقوم بمهمة حراسة البيت من الفئران، فَيَقِفُ للْفَأْرِ لُبْلُب يَتَرَصَّدُهُ، عَلى بابِ جُحْرِهِ، كَيْ يَصْطادَهُ.
يُستهَلّ الحوار بين لبلب وعنتر بنغمة تنمّ عن عداوة متأصلة ومتوارثة، وعندما التقيا أخذا يَتَجادَلانِ وَيَصْرُخانِ:
عَنْتَر: ماذا كُنْتَ تَفْعَلُ يا لُبْلُب أَيُّها اللِّصُ الماكِرُ؟ لَقَدْ سَكَبْتَ الحَليبَ عَلى الأَرْضِ وأَزْعَجْتَنا، اُغْرُبْ عَنْ وَجْهِنا.
لُبْلُب: أَنْتَ مُدَلَّلٌ يا عَنْتَر، أَمّا أَنا فَلا أَحَدَ يُحِبُّني، وَأَصْحابُ الْمَنْزِلِ يَعْتَبِرونَني غَريبًا.
عَنْتر: أَنْتَ يا لُبْلُب تُفْسِدُ محاصيلَ الفلَّاحِ، وَتَثْقُبُ المَلابِسَ الثَّمينَةَ.
لُبْلُب: أَنا لا أَقْصِدُ تَمْزيقَ المَلابِسِ، وَلا إِفْسادَ المحاصيلِ، بَلْ أُريدُ لُقْمَةً صَغيرَةً أَقْتاتُ عَلَيْها.
ثمّ يأخذ الحوار منحنى مختلفًا، عندما يبدي القط عنتر نواياه المسالمة ورغبته في إحلال السلام بينه وبين الفأر لبلب، رغم قدرته على فعل ما كان يفعله أخوه مرمر من اصطياد للفئران، فيؤكّد دعوته إلى السلام والمحبّة، ما أثّر على موقف الطرف الآخر الذي بدورة أظهر ليونة وتسامحا:
عَنْتَر: اسْمَعْ يا لُبْلُب: أَخي مَرْمَر اصْطادَ كَثيرًا مِنْ أَفْرادِ عائِلَتِكَ، أَمّا أَنا فَأُريدُ سَلامًا وَمَحَبَّةً بَيْني وَبَيْنَكَ.
لُبْلُب: وَأَنا أَيْضًا، أُحِبُّ هَذا السَّلامَ وَأَكْرَهُ أَيَّ عَداوَةٍ بَيْنَنا.
عَنْتَر: هَلْ مُمْكِنٌ أَنْ يَعُمَّ السَّلامُ بَيْنَ جَميعِ القِطَطِ وَالفِئْرانِ؟
يتطوّر الحوار بين لبلب وعنتر، ليتباحثا سبل السلام وشروطه، وأهم هذه الشروط توفّر الطعام للجميع:
لُبْلُب: نَعَم مُمْكِنْ، فَإِذا تَوَفَّرَ الطَّعامُ لِلْجَميعِ، بَعْدَها قَدْ يَعُمُّ السَّلامُ.
يأخذ عنتر بزمام الأمور ويظهر مسؤولية من خلال اقتراح الحلول:
عَنْتَر: يا صَديقي لُبْلُب، سأَتْرُكُ لَكَ قَليلًا مِنْ طَعامِ الفَلّاحِ، حَتَّى تَأْكُلَ مِنْهُ ما تُريدُ.
أمّا لبلب فيَعِدُ صديقه الجديد بعدم إحداث إزعاج ما دام الشرط متوفرًا:
لُبْلُب: مِنَ الآنَ فَصاعِدًا سَوْفَ لَنْ أُزْعِجَ سَاكِني الدّارِ، وَلَنْ أُمَزِّقَ ثِيابَهُم أَوْ أُفْسِدَ طَعامَهُمْ.
خصائص الحوار في قصص الأديب سليم نفاع
يلحظ المتلقّي اعتماد الأديب سليم نفاع على الحوار القولي في القصص الثلاث المذكورة، ذلك أنه يتوجه إلى الأطفال في سنّ مبكرة، وهذا النوع من الحوار الصريح، يلائم المرحلة الذهنية التطوريّة عند معظمهم.
من خصائص المواقف الحواريّة البارزة من خلال القصص الثلاث:
أولًا: المواقف الحوارية الواردة واقعية ممكنة الحدوث، فالشخصيات تنتقي ألفاظها ونغمات ألفاظها، ومبنية بشكل مقنع، فمن الضيف الغريب المستغرب، إلى المضيف القرويّ البسيط المضياف، والأم المحتوية، والفتاة المحبة للاستطلاع، والراعي الملمّ بنبات الطبيعة، ولبلب الفأر الذي يعيث الفساد، وعنتر القط الذي يلاحق الفأر، وكلاهما يمثلان شخصيات واقعية قد نعرفها أو نلتقي بها، وبينهما علاقة عداء متجذّر. أما وصف المكان والزمان، فقد أسهم في إضفاء الواقعية على الحوار، خصوصًا عند وصف طبيعة بلادنا وأشجارها وأزهارها ونباتها، وإيراد تسمياتها الشائعة.
ثانيًا: تعتمد المواقف الحواريّة في معظمها على لفظ القول ومشتقاته، ولكنّ اللفظة استُبدلت في بعض الأحيان لمنحها النغمة المتوقعة لدى المتلقي أو السامع، وشحنها بالانفعالات المهيمنة على المواقف المختلفة، نحو: سَأَلَتْ، أجابَتِ، يَتَجادَلانِ وَيَصْرُخانِ، وهي أفعال يُتوقّع أن يتبعها ما يفسّرها من حوار.
ثالثًا: الحوار باعتباره آلية حضارية ووسيلة لتذويت القيَم الاجتماعية والإنسانية والتراثية والثقافية والأخلاقية والصحية؛ فالحوار في قصة أجمل اللغات يعرّض الطفل المتلقّي لقيم تدعم انتماءه ولغته وبالتالي هويّته. وفي قصة نسرين زهرة من بلدي، ورد الحوار في أكثر من مشهد؛ ففي المشهد الحواري الأول البنت تسأل والأم تجيب، بينما في المشهد الأخير، تنقلب الأدوار فالأم تسأل والفتاة تجيب، ما يشير إلى أنّ الحوار هو وسيلة التواصل والتقارب والتفاهم في العلاقات العائليّة، ويؤكّد حق الابنة أو الابن في أن يكونا طرفًا مشاركًا فيه.
والحوار بين نسرين وصديقاتها، ساعد نسرين في اتخاذ قرار مرافقتهنّ، فالحوار أفسح المجال للصديقات بتعليل نزهتهنّ، ما أقنعها بالمشاركة، ووجود هذا الحوار بينهنّ يفرض الاحترام ويثري ويؤكّد التواصل الإنساني والعلاقات السويّة.
كذلك مشهد الحوار مع الراعي فإنه يدلّ على احترام الصغار للكبار، واحتواء الكبير للصغيرات اللواتي يتعرفن على الطبيعة الربيعية من خلال الحوار معه.
أمّا العلاقة بين لبلب وعنتر، فهي بالأساس مستعرة وتنضح عداوة وكراهية، ذلك أنّ المصالح بينهما متضاربة، فأحدهما يحرس البيت، والثاني يخرّب ويُفسد محتوياته، لكنّ الحوار الذي بدا في أوّله صاخبًا، أخذ وجهة جديدة ملامحها سلام ومودّة واحترام، وهنا يبرز دور الحوار في الكشف عن جدّية الصراع وحجم النزاع بين الأطراف المتخاصمة، ولكنّه أيضًا أسهم في تقريب وجهات النظر والتوصّل إلى حلول من شأنها أن ترضي جميع الأطراف المتنازعة.
وفي الجانب الحضاري التراثي تختزن قصص الأديب سليم نفّاع عناصر تراثية هامّة، نحو تسميات النباتات والأشجار في الحضارة العربيّة وطرائق الاستفادة منها أحيانا، مثل: الزَّعْتَرُ، الْميرَمِيَّةِ، شايَ الْوَعْر، الزَّيْتونِ (الْمَرْصوصِ وَالْمَكْبوسِ مَعْ نَبْتَةِ الْفيجَن) وَزَيْته الْمُفيدُ لِلصِّحَةِ وَالْعافِيَة، شَجَرَةُ سِنْدِيان، شَجَرَةُ الزَّعْرورِ، شَجَرَةُ خَرّوبٍ نَعْمَلُ مِنْها الدِّبسَ (الرُّب) للشِّفاء، زَهْرَةُ عَصا الرّاعِي، زَهْرَةُ شَقائِقِ النَّعْمانِ الْمُسَمّاةِ (بَرْقوق). كما تم ذكر تسميات لبعض الطيور كالرُقْطِيَّة، والْحَجَلِ.
بعض القصص كانت مرآة تعكس بعضا من نظم الحياة التقليديّة التراثية، فها هو الراعي يعزف بشبابته وخرافه متناثرة حوله في الطبيعة الخضراء، وها هي ينابيع المياه الصافية المستخدمة للريّ.
وقد وردت في بعض القصص أغان وأمثال شعبية يكثر تداولها بين أفراد المجتمع المحلي، مثل أُغْنِيَةَ ” عَلى دَلَعونا عَلى دَلْعونا، راحوا الْحَبايِبْ وَما وَدَّعونا”، والمثَل: (كُلْ زيتْ وِانْطَحْ الْحيط).
رابعًا: الموضوعية وعدم الانحياز، ففي الحوار بين الخصمين لبلب وعنتر لا يُظهر الراوي أي تعاطف أو تضامن مع أحد الأطراف، بل أعرب كلّ طرف عن موقفه، فأتاح الحوار المساحة لحضور كليهما من أجل إيجاد صيغة ترضي الطرفين، دون إغفال للرأي الآخر.
خامسًا: تقبّل النقد البنّاء، ففي “أجمل اللغات” يوجّه الضيف الغريب رسالة نقد، رغم حسن معانيها وكثرة تهذيبها، إلا أنّها موجعة وتمسّ الصميم. فقد أبرز الحوار بأنّ الغرباء عن اللغة العربيّة يقدّرونها ويجلّونها أكثر من متحدّثيها أنفسهم، وقد أثّر كلام الغريب في الراوي إلى حدّ تأريق نومه، ولومه نفسه ومجتمعه على تجاهل اللغة العربيّة، فأخذ يبحث عن سبيل لرفع شأنها بين أفراد المجتمع ومكانتها بين سائر اللغات.
ملامح أسلوبيّة في الجملة الحوارية في قصص الأديب سليم نفاع
تكثر الأساليب اللغويّة المكوّنة للحوار في قصص الأطفال عند الأديب سليم نفّاع، وهذه الأساليب لها أثر جليل على بنية الجمل الحواريّة، وبالتالي تخدم أهداف الحوار.
أهم الأساليب والبُنى اللغويّة:
- الجملة الاستفهامية: تكثر في الحوار الجمل الاستفهامية، وللاستفهام في حوار الأديب سليم نفّاع أكثر من غرض؛ فمن الجمل الاستفهامية ما جاء حقيقيًّا يهدف معرفة شيء مجهول، ويحتاج إلى جواب، نحو: ” هَلْ يَزُوُر بَلْدَتَكُم، سُيَّاحٌ مِنْ غَيْرِ أُمَّتِكُم؟”، “مِنْ أَيْنَ نُحْضِرُ يا أُمّي الْحَبيبَةَ هَذِهِ النَّباتاتِ الَّلذيذَةِ الطَّعْم؟”، “إِلى أَيْنَ أَنْتُنَّ ذاهِبات؟”، “ما هَذِهِ الْأَزْهارُ الزَّاهِيَةُ ذاتَ الرّائِحَةِ الزَّكِيَّةِ الْعَطِرَة؟”، “ما أَسْماءُ هَذِهِ الزَّهْرات؟”، “كَيْفَ كانَتِ النُّزْهَةُ في الطَّبيعَةِ، وَماذا شاهَدْتِ يا حَبيبَتي نِسْرين؟”.
ومن الاستفهام ما جاء بلاغيّا ولا يتطلب جواباً، وإنما يشير إلى موقف المتكلّم من استنكار وتعجّب أو نفي، نحو: “….، هَلْ نَحْنُ حَقًا فِي بَلْدَةٍ عَرَبِيَّةٍ؟”، “لِمَاذا الإِعْلانُ عَنِ الْمَحَلاَّتِ التِّجَارِيَةِ، باللُّغَةِ الانْجِلِيزِيَّةِ؟”، “… وَأَنْتُمْ لِمَاذَا تَتَجَاهَلُونَ لُغَتَكُم، وَحَضَارَتُكُم عَظِيَمةٌ، نَشَرَتْ عُلُومَكُم، فِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ الدُّنْيَا؟”، “ماذا كُنْتَ تَفْعَلُ يا لُبْلُب أَيُّها اللِّصُ الماكِرُ؟”، ” هَلْ مُمْكِنٌ أَنْ يَعُمَّ السَّلامُ بَيْنَ جَميعِ القِطَطِ وَالفِئْرانِ؟”
- جملة الأمر، فهي من الجمل الطلبيّة، وفيها يُستعمل الفعل بصيغة الأمر أو اسم فعل الأمر، وهو ما يضفي حيوية على الحوار، ويجسّده حيًّا أمام المتلقّي، نحو: “قُلْ لِي وَأَجِبْنِي”، “تَعالِي نَتَمَتَّع”، “هَيّا بِنا نُشاهِدُ مَنْظَرَ الطَّبيعَةِ السَّاحِرَةِ”، “اُغْرُبْ عَنْ وَجْهِنا”، “اسْمَعْ يا لُبْلُب”، وكلها أفعال لافتة للأنظار والأسماع، تحكمها الحركة والصوت.
- جملة النداء، وجاءت باستعمال أداة النداء، وكلّها تبرز علاقة القرب النفسي والجسدي بين المنادي والمنادى: ” يَا سَامِي”، “يَا ضَيْفِيَ الْعَزِيَز”، “يَا صَاحِبي”، “يا أُمّي”، “يا بُنَيَّتي”، “يا أُمي الْعَزيزَةَ”، “يا حَبيبَتي”، وجاءت جمل النداء لتنبيه المنادى، إلى المضمون التاي لها.
- التأكيد: بعض الجمل الحوارية يشتمل على آليّات تفيد التأكيد، باستعمال أنَّ/ إنَّ: “أَنها بَلْدَةٌ عَرَبِيَّةٌ” أو قد قبل الفعل الماضي: “وَقَدْ بَدَتْ”، أو باستعمال التوكيد المعنوي: “هَذِهِ النَّباتاتُ كُلُّها”، وكلها أساليب تضفي سلطويّة على فحوى الحوار، وتؤكدّ مرجعيّة المتكلّم.
- استخدام الضمير المنفصل: الضمير هو اسم من المعارف يتضمّن الإشارة إلى متكّلم أو مخاطَب أو غائب، وقد استعمل الأديب سليم نفّاع الضمير المنفصل بشكل لافت للنظر، لتأكيد الحضور ولفت الأسماع والأذهان إلى أهميّة فحوى ما يُقال، نحو: تحديد موقع: “نَحْنُ فِي مَدْخَلِ الْبَلْدَةِ”، طرح سؤال: “إِلى أَيْنَ أَنْتُنَّ ذاهِبات”، إطلاق أحكام: “أَنْتَ مُدَلَّلٌ يا عَنْتَر”، دفاع عن النفس: “أَنا لا أَقْصِدُ تَمْزيقَ المَلابِسِ”، التعبير عن موقف: “أَمّا أَنا فَأُريدُ سَلامًا”، توجيه اتهام: “أَمّا أَنا فَلا أَحَدَ يُحِبُّني”، “أَنْتَ يا لُبْلُب تُفْسِدُ محاصيلَ الفلَّاحِ”، أو عقد مقارنة: “نَحْنُ فِي بِلاَدِنَا نَعْتَزُ بِلُغَتِنَا، وَأَنْتُمْ لِمَاذَا تَتَجَاهَلُونَ لُغَتَكُم”.
- استخدام النفي بالأداة لإثبات وجهات النظر ولإبداء حسن النوايا أو لوصف حالة المتكلّم: “لا أَرَى..”، “سَوْفَ لَنْ أُزْعِجَ سَاكِني الدّارِ، وَلَنْ أُمَزِّقَ ثِيابَهُم أَوْ أُفْسِدَ طَعامَهُمْ”، “لاَ أَرَى فِي لُغَتِكُم مَا يَعيبُ”، “بِلا تَرَدُّدٍ:…”، “لا تُوجَدُ أَيَّةُ سِيَاحَةٍ”.
- أسلوب الشرط، وهو تركيب لغوي يحتاج لأداة تربط بين جملتين، الأولى شرط لجواب الثانية، ويفيد بوقوع شيء بسبب شيء آخر مرتبط به ومسبّب له، ويتكوّن من ثلاثة أركان: أداة الشرط، وجملة فعل الشرط، وجملة جواب الشرط: “َإِذَا أَحَبَّ الإِنْسَانُ لُغَتَهُ، زَادَتْهُ ثِقَةً بِنَفْسِهِ وَرِفْعَتِهِ”، “إِذا تَوَفَّرَ الطَّعامُ لِلْجَميعِ، فبَعْدَها قَدْ يَعُمُّ السَّلامُ”.
- السجع: وهو في علم البلاغة توافق الكلمتين الأخيرتين (الفاصلتين) في فِقْرتين أو أكثر في الحرف الأخير: “أَجْمَلُ للنَّاظِرِ، وَأَكْثَرُ تَقَبُلاً لِلْخَاطِرِ”، والسجع قادر على ترسيخ الفكرة، من خلال إحداث نغمة موسيقية تشدّ السامع، وتثير مشاعره.
10: العطف: من خلال اتباع لفظ للفظ آخر بواسطة حرف عطف. وبذلك يتكون أسلوب العطف من المعطوف عليه (المتبوع) والمعطوف (التابع) وحرف العطف، مثل: “قَدْ تَعَرَّفْنا عَلى أَنْواعِ الْأَشجارِ والْأَزهارِ والنَّباتاتِ، وَشاهَدْنا نَبْتَةَ الزَّعْتَرِ، … وَأَنا سَأَدْعو طُلَّابَ مَدْرَسَتي …، حَتّى نُشاهِدَ وَنَلْمِسَ وَنَشُمَّ وَنَتَذَوَّقَ خَيْراتِ بِلادِنا الْحَبيبَة.” إنّ أسلوب العطف في قصص الأديب سليم نفاع يضفي تماسكًا على الجُمل، ويثري التدفق في الأفكار، ما يجعل منها نصوصًا ذات رسالة واضحة يسيرة التناول.
- الزمن في الحوار: يتراوح بين الزمن الحاضر والمستقبل، لذا فالأفعال في الحوار في معظمها جاءت على صيغة المضارع. فالكاتب يرسم ملامح الواقع من جهة، ولكنّه يطرح الحلول المستقبلية والاقتراحات العمليّة التي من شأنها ان تبني عالما أوتوبيًّا مثاليًّا، يطيب العيش فيه؛ كالحوار في قصّة “لبلب وعنتر”.
ويُضاف إلى الأساليب اللغوية المذكورة أعلاه، اللغة السليمة المعياريّة التي تلائم الأطفال، وتعمل على إثراء كنزهم اللغويّ، من خلال تقديم عبارات وجمل ومفردات في سياقات منطقية مثيرة لإدراكهم في السن المبكّرة، واعتماد الفعل الذي من شأنه إضفاء الحركة على الحوار، وغيرها من الأساليب
التي تبني لغة الطفل، وتحدد مواقفه، وتعينه على التعبير. والمتتبّع لقصص الأديب سليم نفّاع يلحظ اعتناءه بتنمية المهارات الحسية لدى الطفل، دون إغفال الجانب المرِح المشوّق، والجانب القيَمي الأخلاقي، لتحقيق التوازن النفسي والفكري بعيدا عن التلقين والوعظ.