- القناديل الناعسة!
أضواء قناديل الزيت الناعسة تطل من المساكن الوادعة في القرى العربية المنثورة على الجبال التي تحتضن مدينة البشارة. اللوحة رومانسية قادمة من دنيا الزمن الجميل.
غير أن القناديل الناعسة لا تبقى ناعسة..وتطمح أن تنتفض وتفرك عينيها وتنفض عنهما غبار النعاس.
ومن بعيد..تطل طلائع اللوكسات!
تزحف جحافل الحضارة والتقدم “التكنولوجي” حاملة معها أعراس الفرح الزاهرة إلى المنازل في القرى والمدن..فتحتل “اللوكسات” بعيونها البراقة الساطعة ونظراتها البيضاء الناصعة والقادمة من عالم “التكنولوجيا الذكية”..محل النعاس في قناديل الزيت!
تنزل القناديل عن المسرح وتخرج إلى التقاعد..وتلجأ إلى الزاوية المعتمة..ثم تجد لها مكانًا في متاحف الفولكلور التي تحتضن “تاريخ الأيام الغابرة” وتذكر بأيام مضت من الزمن الجميل.
فالعلاقة بين توماس إديسون (مخترع الكهرباء) وبين حمولة قناديل الزيت يسودها توتر شديد يصل إلى درجة القطيعة!
وعلى نسق “ماقو أوامر”..وعلى سبيل الدعابة..يقول بعض الظرفاء: ماقو كهرباء!
- السهيلان هما الحل!
أما ماركوني (مخترع الراديو) فقد نشأت علاقة طيبة بينه وبين عشاق الأغاني المصرية واللبنانية والمتعطشين إلى سماع الأخبار السياسية.
وفي غياب الكهرباء..لا بد من الإبداع وخوض غمار الطرق الالتفافية!
ويكون السهيلان..سهيل مطر (أبو فكتور) وسهيل جرايسي (أبو نبيل) صديقا ماركوني..هما طوق النجاة من بحار الجهل الفني والإعلامي والسياسي.
فالسهيلان هما الحل!
بعض المناحيس من ظرفاء الناصرة الذين احترفوا فن الفبركة واختراع الطرائف..يروون النادرة التالية:
يأتي الرجل إلى سهيل مطر (أبو فكتور) فيقف على مدخل حانوت “شحن البطاريات” القائم وراء عين العذراء جارة سينما ريكس الجليل:
– عمي أبو فكتور..أريد أن تعبئ البطارية السوداء نُصّين..نُصّ على وديع الصافي والنُصّ الثاني على صباح..
ويأتي آخر إلى سهيل جرايسي (أبو نبيل) غريم سهيل مطر في ميدان “شحن البطاريات”:
– عمّي سهيل..ألله يرضى عليك..أريد أن تعبئ البطارية على..عبد الناصر..فاليوم نريد أن نسمع خطاب “أبو خالد”..حبيب الملايين!
**
أنا في غنى عما يتناقله الرواة عن الظرفاء المغرضين. فالرواة ذمّتهم واسعة..فنانون في تضخيم الحبّة حتى تصبح قبّة..وفنانون في جعل الفأر يتمخّض ليلد جبلا..فتتسرب الحكايات في مسارب التزييف والتحريف والمبالغات والتهويلات التي يمتاز بها مجتمعنا الشرقي..ونحلق في عالم الخيال حتى نقطع صلاتنا بالواقع!
لا حاجة للرواة والظرفاء!
ففي كثير من هذه المشاهد الفولكلورية..كنت بلحمي ودمي وأم عيني شاهدًا على العصر!
- موعد مع العملاق الأسمر!
البطاريات السوداء ملآى جاهزة..تغصّ بحمولتها من الشحنات الكهربائية..والراديوهات على أهبة الاستعداد..وفي حالة استنفار..تتأهب للانطلاق!
**
في الساعة الرابعة من عصر هذا اليوم سيخطب عبد الناصر!
يتمسمر أهل الناصرة على مقاعدهم وكنباتهم ودواشكهم وطراريحهم ومساندهم ..يحترفون الانتظار..وكلهم ترقّب وشوق لإرواء النفوس العطشى!
إنهم على موعد مع الرجل الأخضر..جمال عبد الناصر!
يتعازم الأصدقاء فيتجمّعون في البيوت تلبية لدعوة الصديق عبد الله لحضور طقس من طقوس العبادة الناصرية!
ويتجمّع العربان في المقاهي والمطاعم والمكاتب وعلى أرصفة الطرقات والشارع اليتيم..وفي جنينة أبو ماهر..
جنينة أبو ماهر..مجمع الخلان.
– عشرة قهوة للشبان يا نعمان..
ولا يلبث أبو ماهر الكريم بصوته الرخيم.. أن يزوّد الرسول نعمان المصري بما تيسر من فناجين “المحبوبة السمرا” التي تتربع على الصينية النحاسية المزخرفة..والتي تعبق برائحة الهال..فتشقّ قافلة الفناجين طريقها إلى الزبائن الكرام..عشاق جمال عبد الناصر!
ويتجمعون في مقهى الحتاحوت عند ملتقى الشارعين..بولس السادس..والشارع الصاعد باتجاه الكازانوفا و كنيسة البشارة الجديدة وسوق الروم..
- أبو مصص..والباب العالي
وفي التجمعات الناصرية..تنتشر “العيون” التي يرسلها “الباب العالي” للاطمئنان على صحة الرعية!!..فيندسّ “أبو مصص” الداسوس استعدادًا للقيام بالمهمة المنوطة به..والتي أرسل من أجلها: إستراق السمع وقراءة لغة الجسد ولغة العيون وسقطات اللسان..وقياس منسوب الفرح والعشق والانفعال عندما يلقي الزعيم خطابه.
ذرًّا للرماد في العيون ودرءًا للشبهات..لا يتردد الرجل في التباهي بعشقه وحماسه لعبد الناصر!
وفي اليوم التالي تحجّ المطايا إلى مقر “الباب العالي” في المسكوبية لتقدم التقارير عن مجريات الأمور التي حدثت في اليوم السابق..وذلك حفاظًا على سلامة الإمبراطورية العظمى!
- ألنسر الأخضر يملأ الدنيا العربية
صمت مشوب بالترقب والفضول والفرح والشوق.. يخيم على مدينة البشارة.
فالشوارع والطرقات والأزقة خالية..يخيّم عليها سكون رهيب في انتظار العملاق الأسمر..
إرم الإبرة يا طويل العمر..وأتحداك أن لا تسمع صوتها!
نحن على موعد أخضر طال انتظاره..
ألرجل يملأ فضاء الدنيا العربية..وينشر جناحيه من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب!
ألرؤوس مرفوعة شامخة..إباء وكبرياء..
أين سقف السماء!؟
الأرض عطشى!
سينهمر الصوت عذبًا من أجهزة الراديو ويجلجل صوت العملاق ليملأ سماء الدنيا العربية من محيطها إلى خليجها!
**
- ملاحظة تلفزيونية
في هذه الفترة..كان التلفزيون مختفيًا وراء المحيطات. كان كالمُعيديّ..نسمع به ولا نراه. إنه مخلوق غريب يعيش في عالم الأساطير..ولم يهبط علينا بعد..وما زال كامنًا في دنيا الأسرار!
وكلنا شوق لمشاهدة صندوق العجب العصري..”الراديو المتطور” الذي نشاهد فيه صورة أم كلثوم وفريد الأطرش والمذيع جلال معوّض وقبل هذا وذاك..العملاق الأسمر..جمال عبد الناصر!
ستحل علينا هذه المعجزة بعد سنوات!
**
- الراديو سيد المرحلة!
اليوم سينطلق الخطاب من إذاعة “صوت العرب” من القاهرة..من مذياع “حميديّ” ينطلق منه صوت بلا صورة!
ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة!
حقوق شعب فلسطين لازم حترجع!
ألملك حسين ابن زين..طالع لمّو!!
وفي خطاب سياسي له ألقاء العملاق الأسمر بتاريخ 23 تموز 1966 تطرق الرجل إلى حرب اليمن وإلى خسائر الجيش المصري في اليمن، فقال: خسرنا 136 جنديًا وضابطًا. كل واحد منهم “جزمته” أشرف من تيجان أصحاب الجلالة..
فارفع رأسك يا أخي!
إرفع رأسك يا أخي!
**
ينتهي الخطاب السياسي الذي تتغلغل كلماته عميقًا في الوجدان لتصل إلى شغاف القلب..فيشحن الوجدان العربي بمشاعر العزّة والكرامة والكبرياء!
وتصدح الأغاني الوطنية عاليًا عاليًا:
- يا جمال..يا حبيب الملايين!
ناصر كلنا بنحبك..ناصر
ويا جمال يا حبيب الملايين
يا جمال يا جمال!
**
13عفاف الفوراني, ופאא יוניס and 11 others
3 Comments
Like
Comment