قيّض لنا أن نعيش مرحلة الدراسة الابتدائية والثانوية في الفترة الناصرية (ناصرةً وناصرًا!) في الخمسينات والستينات من القرن العشرين.
كنا طلابًا ابتدائيين..نلبس بنطلون الكاكي القصير ونحلق على الصفر..ونمتشق الحقيبة القماشية (الشنطة) المصنوعة من كيس السكر -أبو حزّ أحمر-..وننتعل الصنادل الصيفية في عزّ الشتاء..والبرد النصراوي القارس “يقطع المسمار”..ونعتمر شوال الطحين الفارغ “قبّوعًا” ضافيًا..وهو المظلة الأصلية الكلاسيكية التي تقوم بدورها على أكمل وجه.. فتظللنا وتقينا من غضب السماء عندما كانت الدنيا “كبًّا من عند الربّ”..وكان المطر يهطل متواصلًا أيامًا وأسابيع
يقول أهل العلم!
أيامها..كان الشتاء شتاء!
كان الشتاء شتاء والربيع ربيعًا والصيف صيفًا والخريف خريفًا
**
وكنا ننهل من عين العذراء (عندما كانت عينًا وكانت عذراء!!)..ونشارك في عرس “الولدنات” والمشاغبات و”الطوشات” الصغيرة حول حقّ الأولوية في دلو من ماء زمزميّ تجود به السيدة العذراء ..على عباد الله البؤساء ..يشترك في الطوشات الفتية والفتيات الصغار..ويُلعن فيها الآباء والأمهات والأخوات وأشياؤهن المستورات المحرّمات..وتتناطح على الرؤوس الجِرار..وتتدفق الألفاظ النسائيّة “المنتقاة” من الأبجدية اللاذعة..ويتدفق سيل هدّار من تحت الزنّار..وتفيض عين العذراء بما تيسّر من أشعار الهجاء القتالية!
وكانت مشاهد فولكلورية نقائضية هجائية جريرية فرزدقية عبسية ذبيانية ممتعة..لا أحلى ولا أجمل..وخاصة في نظر الفتية الصغار.. الذين يعشقون التفرّج على الطوشات.. التي يقوم الكبار.. من الفتيات والسيدات!
**
في هذه الأيام..يختلط الحابل بالنابل..وتسقط الحدود بين الفصول..وتضيع الطاسة ويختل التوازن في الطبيعة..فيجن الطقس ويعربد المناخ..ولا تعرف في أي مربع أنت..تموز الذي يغلي فيه الماء في الكوز..ام في كانون الذي تتلبد فيه الغيوم..وتفتح فيه السماء أبوابها..ونكنكن حول الكانون المصنوع من اللبن والقش (الموص) وفي الخارج تنشقّ السماء وتنزل الغيوم أحمالها وأثقالها!
في هذه الأيام..وفي عز الشتاء..تستطع الشمس الحارقة..في عز التشارين والكوانين ..فتسقط الثياب..وتتدفق الصبايا على شواطئ البحر المتوسط..فتمتلئ شواطئ البحر عُريًا..ويغصّ المشهد بالصبايا المثيرات.
الدنيا ما عادت دنيا!