ما زال حب عبد الناصر يمتلك قلبه – زياد شليوط

 

يوم الاثنين 28 أيلول 1970 مساء، في غرفة نوم بسيطة يستعد الأخوة للنوم في أسرتهم كي يصحوا لمدارسهم باكرا، وقبل النوم يتبادلون الحديث، لا يذكر أصغرهم يومها لماذا وكيف نطق بسؤال ساذج: ماذا يحدث لو أن عبد الناصر مات يوما ما؟ وجاءه أكثر من جواب مثل: “انطم نام”، “اخرس!” “واحد أخوت”، ونام ليلته بعد دوش ساخن من التوبيخات. بينما كانت روح الزعيم قد صعدت الى خالقها، لكن بيان النعي لم يكن قد أذيع بعد.

في صبيحة اليوم التالي، نهض الأخوة وانطلقوا الى مدارسهم. كان الصغير في الثالثة عشرة من عمره في الصف الثامن الابتدائي، عندما وصل الى ساحة المدرسة شعر بأمر غير عادي. قرع الجرس، اصطف الطلاب في طابور الصباح، الجو ثقيل، هدوء غير عادي، صمت غير مفهوم، لاحظ وجوم بعض المعلمين والحزن الشديد يكسو وجوههم. لا ينبس أي منهم بأي تعليمات، لا تقريع، لا ملاحظات، لا توجيهات، والابتسامات غابت عن الوجوه. أمر جلل حدث لا يفهم كنهه. ترى ماذا حصل؟ أي أمر وقع يمنع المعلمين من توجيه أي تعليق ساخر لطالب نسي أن يمشط شعره، أو ظهرت أوساخ تحت أظافره، أو نسي المحرمة؟ دخل الطلاب الصفوف بصمت وانتظام، بدون أن يسمعوا توجيهات المعلمين اليومية بالانتظام، أو عدم الضحك والكلام في طريق الدخول للصفوف. هناك لم تبدأ الدروس، المدرّس لا يقوى على الكلام وكأن شوكة تقف في حلقه. الطلاب ينظرون الى بعضهم وقد انتقل شعور غريب إليهم يمنعهم من الإتيان بأي حركة غريبة.

وما هي إلا ساعة وإذ بهم يسمعون أصوات تأتيهم من الشارع، أصوات جلبة يمتزج فيها الصراخ والبكاء والهتافات، لم يفهموا ما يجري فلم يسبق لهم أن شاهدوا مظاهرة أو مسيرة شعبية. سبق وحضروا جنازات لشبان توفوا في بلدتهم، ورأوا الناس يبكون بحرقة أولئك الشبان. لكن هذه ليست جنازة، ولا يعقل أن تخرج جنازة لأحد أبناء البلدة في ساعات الصباح. وما هي إلا دقائق وإذ بعشرات بل مئات الشباب ومعظمهم يحملون حقائب مدرسية، انهم طلاب المدرسة الثانوية ومعهم شبان آخرون يقتحمون المدرسة وهم يبكون ويصرخون، ويدعون طلاب المدرسة الابتدائية للخروج من صفوفهم والانضمام إليهم، وبدأت الهتافات تتضح ” لا إله إلا الله .. عبد الناصر حبيب الله”، ” بالروح بالدم نفديك عبد الناصر”، “ناصر يا حرية ناصر يا وطنية” والتقت عيناه بعيني شقيقه الطالب الثانوي، حدجه بنظرة عتاب ولوم فهم معناها، فحول نظره عنه ولحق بأترابه الذين تدافعوا الى الشارع وساروا مع المظاهرة التي واصلت الى مدرسة أخرى، وتحولت شوارع البلدة الى جموع بشرية غير عادية، ساعات من السير في الشوارع والناس تهتف، والنساء على شرفات المنازل تولول وتلطم وجوهها وتبكي بحرقة ودون وعي، والكل يهتف باسم واحد لا غير ” ناصر.. ناصر”.

صحيح أنه كان يسمع هذا الاسم من خلال أحاديث قليلة، تمكن من التقاطها جرت بين والده وأصدقائه، أو من خلال أغنيات انطلقت من الراديو المركون في إحدى زوايا البيت. لكنه لم يتعرف إلى عبد الناصر وما يعنيه من قيمة كبيرة إلا بعد وفاته، فأخذ يتابع كل كلمة وإشارة تتناول عبد الناصر، ويبحث عن أي كتاب يحمل اسم عبد الناصر، أو مجلة على غلافها صورة عبد الناصر، فيأتي بهما الى البيت ولا يتركهما إلا وقد أتى عيهما من الغلاف إلى الغلاف.

مرّ يومان، علم فيما بعد وبعدما نضج أكثر، أن الشباب المندفعين بحب الزعيم، ومعهم بعض النشيطين السياسيين من أصحاب الخبرة، لجأوا إلى المغاور في البرية القريبة من البلدة، بعيدا عن عيون وآذان أذرع السلطة وأعوانها. مكثوا في البرية يخططون ويحضرون ويرسمون ليوم الخميس الأول من تشرين، يوم تشييع جثمان الزعيم جمال عبد الناصر في القاهرة، كما أقرته الحكومة المصرية، وجرى الاتفاق على إقامة جنازة رمزية في البلدة تليق بالزعيم ومكانته. وقامت الأمهات بتحضير الطعام وارساله لهم مع بعض الفتيان، الذين أحضروا لهم أيضا ما طلبوه من عصي خشبية وقطع قماش وطلاء وغيره.

واستفاقت البلدة يوم الخميس على موعد مع وداع الزعيم. حضر الجميع ولم يتخلف أحد. النساء بملابسهن السوداء، تلاميذ المدارس، الرجال، الأطفال، العمال، الفلاحون، المتعلمون، حضروا للساحة المركزية. الأعلام السوداء ترتفع والى جانبها صور عبد الناصر وشعارات الوداع، وأكاليل الورد. طالبات المدرسة الثانوية وطلابها بزيهم المدرسي يحملون الشعارات، أعضاء الكشاف بملابسهم الكشفية يحملون الطبول ويقرعون دقات الحزن. أما صغيرنا الذي اندس بين الجموع، فقد حمل صورة صغيرة للزعيم بكف يده، لا يذكر من أين حصل عليها، لكنه يذكرها جيدا وكأنها ما تزال في كف يده، يتشبث بها لئلا تسقط من يده، وأثناء المسيرة ومن وقت لآخر يفتح كفه ليتأكد من أن الصورة ما تزال في يده، من شدة الزحام والتدافع. وفجأة شاهد نعشا خشبيا عليه صورة الزعيم، ترفعه أكف الشباب وهم يهتفون ” ناصر حبيب الله”، وارتفع نحيب النساء وهن يلوحن بمناديلهن لوداع الزعيم، وخيّل إليه أن جسد الزعيم مسجى داخل النعش فعلا.

انطلقت الجنازة الرمزية لعبد الناصر، بمشاركة جماهيرية لم ير مثيلا لها من قبل. وصدحت الحناجر بالشعارات العروبية تؤكد على مواصلة المشوار “يا ناصر ارتاح ارتاح .. واحنا نكمل الكفاح”. وتارة تدل على عدم ايمان الناس بوفاة عبد الناصر وعدم استيعابهم لهول الخبر، فيهتفون “ما تصدقش ما تصدقش.. عبد الناصر لسه ما متش”. وصلت المسيرة محطتها الأولى، حيث قرعت أجراس الكنيسة حزنا على زعيم العرب، ومقابلها انطلقت الأذان من مسجد البلدة. دخل عدد كبير من الرجال إلى المسجد للمشاركة في صلاة الجنازة، ولجأت النساء إلى ساحة الكنيسة، يفترشن الأرض يبكين الوالد والابن، الواحد، الوحيد، ويعددن مآثره وهول المصيبة التي وقعت على العرب في كل مكان فجأة.

وعادت الجنازة لمواصلة سيرها بزخم كبير وحزن لف الجميع، تطوف شوارع البلدة، إلى أن وصلت محطتها الأخيرة في المقبرة الإسلامية. هناك أقيمت صلاة الغائب وتم الإعلان عن انهاء الجنازة الرمزية.

عاد الصغير إلى بيته وصورة عبد الناصر الصغيرة بيده، ومع مرور وتوالي السنين كبرت صورة عبد الناصر، وأضحت صورة كبيرة معلقة على جدار المكتب. وكبر حب عبد الناصر في قلبه إلى حدّ أنه امتلكه ولم يتزعزع يوما، وما زال حبّ عبد الناصر يمتلك قلبه.

(شفاعمرو/ الجليل)

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*