“مأساة وضّاح” مسرحيّة شعريّة عن حياة الشاعر وضّاح اليمن للشاعر سامي مهنا، صدرت قبل أسابيع قليلة عن دار نشر “كلّ شيء” في حيفا لصاحبها صالح عبّاسي. وصُدّرَت المسرحيّة بمُقدّمتَين: الأولى للشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين. والثانية للدكتور عمر عتيق.
صدور المسرحيّة أفرحني. أوّلا لأنّ الشاعر سامي مهنّا شقّ مَسارا جديدا بين أبناء جيله من الشعراء الشباب بكتابة مسرحيّة شعرية، واختار الالتزام ببحور الشعر العربية، واهتمّ باستخدامها كلّها في مسرحيّته، وأنّه اختار شاعرا قديما اختلفت حوله الرّوايات ليُعيده إلى ساحة الاهتمام والنّقاش.
وثانيا أنني أحببتُ الشاعر وضّاح اليمن يوم تعرّفتُ عليه بعد قراءاتي الموسّعة عنه في العديد من الكتب القديمة والحديثة، واحتفظتُ له بصورة جميلة.
مَن هو وضّاح اليمن؟
اختلفت الروايات والآراء حول شخصية وشعر وضّاح اليمن، فهو، كما ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتابه “الأغاني” الجزء السادس ص198، عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كُلال. ذكر أبو عبيدة وابن الكلبي أنّه من أصل يمني من آل خولان أو أصل فارسي من سلالة الفرس الذين جاءوا اليمن مع سيف بن ذي يَزَن ليردّوا عنها غارة الحبَشة. مات أبوه وهو طفل فانتقلت أمّه إلى أهلها وزُوّجت رجلا من أهلها من أولاد الفرس، وشَبّ وضّاح في حجر زوج أمّه فجاء عمّه وجدّته أمّ أبيه، ومعهم جماعة من أهل بيته من حِمْيَر يطلبون أخذ وضّاح إليهم، فادّعى زوجُ أمّه أنّه ولده فرُفعَت القضيّة إلى الحاكم فقضى لصالح عمّه وجدّته. ويقول صاحب كتاب الأغاني إنّ الحاكم أعجبه جمال الفتى ومسَح يده على رأسه وقال له: اذهب فأنتَ وضّاح اليمن، لا من أتباع ذي يزَن، فعلقَت به هذه الكلمة منذ يومئذ، فلقّب “وضّاح اليمن”. وقال ابن شاكر الكتبي في الوافي (2/272) وكان من حسنه يتَقنّع في المواسم مَخافة العين”.(مقدمة ديوان وضاح اليمن، إصدار دار صادر ص10).
وقال محمد بن حبيب في شرح ديوان جرير في تعليقه على بيت جرير: “الوضّاح مولى لبني أميّة صاحب الوضّاحية وكان بربريّا. وكذلك يقول ياقوت في “معجم البلدان” وكذلك ذُكر في تاريخ الطبري.
واختلف الرواة حول موت أبيه فبينما ذكر صاحب الأغاني وغيره أنّه مات ووضاح لا يزال صغيرا فكبر في بيت زوج أمّه، نجد رواية أخرى تقول بأنّ كتابا من اليمن وصل إلى وضّاح وهو في قصر الوليد بن عبد الملك مُكرّما معزّزا من قبَل أمّ البَنين يُخبرونه فيه بموت والده وأخيه فحزن ورثاهما بقصيدة يذكرُها أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني 6/214″ يبدؤها بقوله:
أراعكَ طائرٌ بعد الخُفوق بفاجعة مُشَنّعة الطُّروقِ
ثم يذكر أخاه ووالده:
فما أنْفكّ أنظرُ في كتابٍ تُداري النّفسُ عنه هوى زَهوق
يُخبّرُ عن وفاة أخٍ كريمٍ بعيـدِ الغَـوْر نَفّـاع طليـق
وقَرْمٍ يُعرِضُ الخُصْمان عنه كمـا حادَ البِكارُ عن الفَنيقِ
لم تُعرَف سنة ولادة وضّاح اليمن، أمّا وفاته فقد ذكر ابن تغري بردي صاحب “النجوم الزاهرة” أنه توفي عام 93 هجرية، بينما الزركلي في “الأعلام” ذكر سنة 90 هجرية وقد يكون قتل سنة 95 هجرية في إحدى الغزوات إلى بلاد الروم كما ورد في تاريخ الطبري أثناء حديثه عن أحداث سنة 95 هجرية “وفيها قُتل الوضّاحي بأرض الروم ونحو ألف رجل معه”.
وذكر أبو فرج الأصفهاني في الأغاني ما ذكره ابنُ الكلبي عن قصّة قَتْل الوليد بن عبد الملك لوضّاح اليمن. أنّ الخليفة الوليد بن عبد الملك قد غضب على وضاح اليمن وقد وجده عند زوجته “أمّ البَنين” التي كانت تُخفيه في صندوق كبير حتى لا يراه أحد، فأمر الوليد بحفر بئر في مجلسه وأُلقي الصندوق، وفيه وضّاح، في البئر وهو حيّ. ويُعلّق الأصفهاني على هذه القصة بقوله: إنّ هذه القصّة مَصْنوعة، ويورد ما ذكره كلثوم والزبير بن بَكّار بأنّ هذه القصّة وضعَها أحدُ زنادقة الشّعوبيّة وقد كانت بينه وبين رجل من وُلْد الوليد فَخارٌ خرَجا فيه إلى أنْ أغلظا المُسابّة، وذلك في دولة بني العباس، فوضع الشعوبيّ كتابا زعم فيه أنّ أمّ البَنين عشقت وضّاحا، وكانت تُدْخلُه صندوقا عندها. فوقف على ذلك خادم الوليد فأنهاه إليه وأراه الصندوق، فأخذه ودفنه.”ص211 . ويقول مُقدّم ديوان الشاعر: “وقد شكّ كثيرون في صدق هذه الحكاية، وعدّوها من صنع الشعوبيّة التي دأبت في وضع الأخبار الكاذبة على العرب واختلاق الحكايات المسيئة لهم بغيّة النَّيل منهم والإساءة إليهم. (ص19-20)
ويذكر صاحب الأغاني قصة ثانية حول قتل الوليد للشاعر منسوبة لمصعب. “بلغ الوليد بن عبد الملك تشبّبُ وضّاح بأمّ البَنين فهَمّ بقَتله، فسأله عبد العزيز ابنُه فيه وقال له: إنْ قَتلتَه فضَحتَني وحقّقْتَ قولَه وتوهّم الناسُ أنّ بينَه وبين أمّي ريبة. فأمسَك عنه على غَيْظ وحَنَق حتى بلغ الوليد أنّه قد تَعدّى أمّ البَنين إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك، وكانت زوجة عمر بن عبد العزيز، فأحنق واشتدّ غيظُه وقال: أما لهذا الكلب مُزدَجرٌ عن ذكر نسائنا وإخواتنا، ولا له عنّا مَذْهب! ثمّ دعا به فأُحضر، وأمر ببئر فحُفرَت ودفَنه حيّا”. (الأغاني 6/213)
كما كثُرت القصصُ حول قصص حبّ وضّاح لفتاة باسم “روضة” وقد اختلف النَّسّابون في نَسبها ما بين كونها عربيّة كِنْدية، أو من بنات الفرس الذين قدموا إلى اليمن لمساعدة سيف بن ذي يزَن الحميري في حربه مع الحبشة. وقد أحبّها وضّاح وشبّب بها وانتشر غزله فيها فأغضب أهلَها وطعنه أخوها بخنجر عندما قدِم لديارها طالبا يدَها. ثم زوّجوها من رجل عجوز أصيب بالجذام وأصابها به وكان سببَ موتها.
أمّا حبّه الثاني فكان لأمّ البَنين زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك حيث كثرت القصصُ حولها ومدى مِصداقيتها وما كان في نهايتها أنْ قَتَل الوليدُ الشاعرَ وضّاح بدَفْنه حيّا.
أمّا الدكتور طه حسين في كتابه “حديث الإربعاء الجزء الأول ص233-235” فيُنْكرُ وجودَ وضّاح اليمن ويقول: “إنّما العَسير حقّا هو أنْ نقطع بشيء في أمر هذا الشاعر: أوُجِدَ أم لم يوجد؟ أقال هذا الشعرَ أم لم يقله؟ أوقعَت له هذه الأخبارُ أم لم تقع؟” أنا أشكّ في وجود هذا الشاعر شكّا قويّا، وحسبك أنّ رُواته يختلفون فيه اختلافا كثيرا. وقد اخترعت اليمانيّة وضّاحا وشعره -فيما أعتقد- حتى لا يقال إنّها خَلت من شاعر غزل في الإسلام. ويؤكّد طه حسين رفضَه لوجود شاعر باسم وضّاح اليمن قائلا: فأنتَ ترى أمرَ وضّاح هذا كلّه نُكر في نُكر: فشخصُه موضوع شكّ وشعره مَنحول، وأخباره مُتَكلّفة.” (حديث الإربعاء 1/239)
ويوافق الدكتور محمد بهجت الأثري عضو المجمع العلمي العربي الدكتورَ طه حسين في رَفْضه وإنكاره لوجود الشاعر وضّاح اليمن وذلك في انتقاد الدكتور محمد بهجت الأثري واستغرابه لما كتبه أحمد حسن الزيّات عن وضّاح اليمن تحت اسم “مأساة الشاعر وضّاح” ويقول: “إنّ وضّاحا رجل نَكرة اخترعه الرُّواة، وهم يروون عنه الشيء ونقيضَه ويختلفون في كلّ حال من أحواله حتى في نُجاره. فهو عربي حميريّ تارة، ومن سلالة الفرس تارة أخرى، أو في مذهب الموفقين عربيّ ولكن أباه مات عنه طفلا فتزوّجت أمّه رجلا من سلالة الفرس الذين كانوا يسمّون الأبناء، ورواية رابعة تُشعر أنّ أباه مات عنه وهو رجل متّصل بالخلفاء في دمشق وأنّه رثاه بشعر. وعن حبيبته روضة أهي فارسيّة أم عربيّة؟ وعن موته كيف كان أدَفْنا في البئر وهو في الصّندوق أم اغتيل اغتيالا إذ شبّب بأمّ المؤمنين؟ (ديوان وضّاح اليمن- ص 145 وكان قد نُشر في جريدة البلاد العراقيّة في 14 و 16 شباط 1930).
وضّاح اليمن الأسطورة
أثارت قصّةُ وضّاح اليمن بكل مُلابساتها والاختلافات حولها وغرابة بعضها والنّهاية غير المحَقّقة المثيرة للخيال والتّساؤل اهتمامَ الكثيرين من باحثي الأدب العربي، وأوحت للعديد بقصائد جميلة مستوحاة من قصة وضّاح أو ذاكرين له مثل الشاعر اليمني عبد الله البردوني في قصيدته “أبو تمام وعروبة اليوم” حيث قال:
ماذا أُحَدّثُ عن صنعـاء يا أبتي
مَليحـة عاشقاهـا السّلّ والجَـرَبُ
ماتت بصندوق وضّاح بلا ثمَن
ولم يمُت في حَشاها العشقُ والطّربُ
والشاعر أدونيس الذي كتب قصيدته الجميلة “مرآة لوضّاح اليمن” حيث يسأله مُتماهيا معه:
وضّاح، هل صحوتَ، هل رأيتَ
حيث انتهى الماضي وما انتهيتَ
عباءتي، ورأسيَ المسروقْ؟
* *
فأمسِ، والمفتاحْ
يفتح بابَ بيتها
أُنْزِلْتُ في صندوقْ
مثلكَ يا وضّاحْ
وأُنزِلَ الصّندوقْ
في البئرِ..
كانَ صوْتٌ
يقولُ: “كلّ أرض ٍ
بئرٌ،
وكلّ حبٍّ
يعيشُ -كلّ حبّ يموتُ-
في صندوقْ.” (المجلد الثاني 488)
وكان الكاتب أحمد حسن الزيّات قد كتب قصّة “مأساة وضّاح اليمن” بلغة فخمة جميلة راقية شاعريّة، نشرها في جريدة “البلاد” الصادرة في بغداد يومي 17 و 24 كانون الثاني 1930. كما قام الشاعر أسعد الجبوري بكتابة حوار أدبي شيّق له مع وضاح اليمن سمّاه “بريد السماء الافتراضي: حوار مع الشاعر اليمني وضّاح اليمن”. أما المسرحي عبّاس الحربي فقد كتب مسرحية عُرضت على المسرح باسم “مسرحيّة الرّداء” مستوحاة من قصّة وضّاح اليمن.
سامي مهنا ووضّاح اليمَن
ليس غريبا أن يلتفت الشاعر سامي مهنا إلى قصة الشاعر وضّاح اليمن المثيرة والمشَوّقة والغريبة، وما تُثيره هذه القصّة من خيال جامح ورغبة لمرافَقَة هذا العاشق الجميل، يتنقّل معه، ويسترق السّمع لما يدور بينه وبين محبوبته الشابّة الصغيرة “روضة” ثم لينتقلَ معه إلى قصر الخلافة الأمويّة في دمشق ليكون قريبا وأنيسا وعاشقا لـِ “أمّ البَنين” زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك فيبادلها الهوى والكلام الرّقيق الجميل المثير وإذا ما أحسّت بخَطر قادم سارعت لتُدخلَه صندوقا يختفي فيه من عَيْن الرّقيب حتى انكشفَ الأمرُ وعوقبَ وضّاح بدَفْنه حيّا داخل الصّندوق الذي أصبح لَحْدا له، كما تنبّأ:
أظنُّ بأنّ هَلاكي قريبٌ
وصندوقُ عِشقي أرى فيه قبري (ص100)
مسرحية سامي مهنا “مأساة وضّاح” موزّعة على ثلاثة فصول، الفصل الأوّل يضمّ أحدَ عشرَ مَشهدا والثاني تسعة مَشاهد والثالث أحد عشرَ مشهدا. يتناول في الفصل الأوّل قصّة وضّاح مع روضة الفتاة ابنة السادسة عشرة التي سَبَتْ عقلَه وفؤاده من أوّل لقاء له معها وسَماع كلامها. تجري أحداثُ القصة في منطقة الخصيب في اليمن. أمّا في الفصلين الثاني والثالث فيروي قصّة وضّاح مع أمّ البَنين زوجة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك. وتجري الأحداث في أماكن عدّة تبدأ في موسم الحج في مدينة مكة حيث يلتقيان ويتواعدان على اللقاء في دمشق، ومن ثم يكون قصر الخلافة في دمشق المكان الرئيسي للقاء وتبادل الحبّ.
أهميّة المكان
الأماكن التي جرت فيها الأحداث هي: اليمن، مكّة، المدينة المنوّرة، فلسطين، الشام. ولكن الأماكن المحدّدة للحدث كانت في الخصيب في اليمن، ومكة وقصر الخلافة الأمويّة في دمشق.
وكان لهذه الأمكنة أهميّتُها وتأثيرُها في مجرى الأحداث. ففي الخصيب حيث يجري نهرٌ يقصده الناس للتزوّد بالماء والاغتسال، وتحيط به مساحات مليئة بالأشجار، التقى وضّاح مع روضة، وعشق أحدُهما الآخر، وحَفِظ المكانُ الهادئُ الجميلُ سرَّ حُبّهما، بينما المكان في مكة كان فضاء واسعا مزدحما بالحجّاج، ولكنه لانفتاحه مَكّن أمّ البَنين من الاتّصال بوضّاح واللقاء به. كما أنّ المكان في قصر الخلافة في دمشق رغم مَناعته كان مُيسّرا للقاء أم البَنين بوضّاح حتى لو اضطرت لإخفائه في صندوق كبير.
وبينما كان الخصيب يغمرُ العاشقين بالطمأنينة والرّاحة، ويَدَعْهُما على سَجيّتهما يتبادلان حديثَ الهوى ويجلسان كيف يحلو لهما، لا يخافان رقيبا أو مُتلصّصا، فإن مَكّة لم توفّر الطمأنينة ولا الرّاحة، وتمّ اللقاء خلسة وسريعا قلقا، ومثله كان في دمشق حيث ضاق المكان أكثر، وازداد القلقُ والشعورُ بالخوف وتلصّص أصحاب العيون والآذان، وتقلّصَ مكانُ العاشق في صندوق كان مَخْبَأه ثمّ استحال ليكونَ قبره.
الشخصيّات
تتمحور شخصيّات المسرحيّة في ثلاث شخصيّات رئيسيّة هي وضّاح اليمن وروضة في الفصل الأول ووضّاح اليمن وأم البَنين في الفصلين الثاني والثالث. أمّا باقي الشخصيّات فقد عملت على دَفْع الأحداث وخَلق الأجواء اللازمة وإسْباغ الواقعيّة على الحَدَث.
وقداستحضر سامي شخصيّة الشاعر كثير عزّة وجعله يلتقي بوضّاح في مكّة، ويتبادل معه أحاديث الحب والشوق التي كانت لكثير مع عزّة ووضّاح مع روضة، وكذلك يستذكران الشاعرين جرير والفرزدق وما يدور بينهما من شعر الهجاء، كما ويذكران الشاعر قيس الرقيّات الذي كان أحد مَعْشوقي أمّ البنين.
وجعل وضّاح في طريقه إلى دمشق يُعَرّج على المدينة المنوّرة ليلتقي بابن سهيل ويستمع إلى غناء سلّامة القَس. وقد أراد سامي بذلك إخراج القارئ أو المشاهد من ربقة هموم وأحزان وضّاح لينطلقَ عبر الأزمنة والأمكنة ليسأل عمّا جرى من نقائض جديدة بين الفرزق وجرير وما أخبار قيس الرقيّات والجديد عند ابن سهيل والاستماع إلى صوت سَلامة القس الأخّاذ قبل أن يعود بنا ثانية لقصّة وضّاح وما جرى له في دمشق مع أم البنين ونهايته الغريبة المثيرة.
المشاهد القصيرة والشَّدّ بانتباه واهتمام القارئ/المشاهد
كان سامي مهنا على وَعْي كبير بالتّحدّي الذي اختاره لنفسه، فاختياره للشاعر وضّاح اليمن الشخصيّة المتَعدّدة الجوانب والُمخْتَلَف عليها بين مُؤرّخي الأدب ودارسيه، والتزامه ببحور الشّعر العربية اضطره أنْ يكون مُدْركا للصّعوبة وذَكيّا في التّعامل مع الشخصيّات المتعدّدة، وأن يحافظ على إيقاع مُنساب مُتناسق جذّاب يجعل القارئ/المشاهد يتغاضى عن بعض الهنّات والخُفوت والضَّعف في هذا البيت الشعري أو هذه الفقرة أو المشهد واستطاع أن يحمل القارئ/المشاهد على الاهتمام بكُليّة العمل وليس بالجُزئيّات الصّغيرة.
سامي مهنا اهتم أن تكون المشاهد قصيرة، وقد يقصُر بعضُها إلى نصف صفحة، وسارع في التّنقل من مَشهد إلى آخر لمنع الملل، وللهروب من مَطَبّ التّقَيّد ببحور الشعر الصّعبة واختيار المفردات كما رأيناه في الأبيات التي قالها كثير على لسان الشاعر الفرزدق، فقد اجتهد سامي، ونجح في التّقرّب جدا من لغة وخيلاء الفرزدق بنفسه (ص62) ، كما نجد هذه القُدرة الممتازة لسامي في حواره مع سلامة القيس(ص85-86). وجدير بتذكير القارئ/المشاهد بأنّ سامي مهنا هو صاحب الأبيات الشعرية التي نُسبَت لكثير أو الفرزدق أو ابن سهيل وسلامة القس، وأن نشير إلى اجتهاد سامي الكبير في محاكاة الشعراء كثير وابن سهل وخاصة الفرزدق في متانة وجزالة وجمالية شعرهم .
وأجد من الجميل أنْ أنهي رحلتى مع مسرحية الشاعر سامي مهنا عن وضّاح اليمن ببعض النّماذج الشعريّة الجميلة التي تنمّ على الرّقة والسّلاسة الجميلة التي تحلّت بها المقطوعات الشعرية التي كوّنت مسرحيّة “مأساة وضّاح”:
ليت الذي فطرَ الغديرَ أحالني
ماء لتغسلَ لوعتي أقدامُها
***
هي بشرى لقائنا يستحيل
الماءُ خمرا حيثُ استوت قدماها
وغدير كريم كفٍّ ولكنْ
إنْ ظمئنا، تَرقُّ لي شفتاها (24)
***
يا روضة الوضّاح هل سامحتني
بعد الفراق وبعد عصف الدّاء
أحببتك أنشدتكِ فقتلتكِ
فقتلتِني بفنائكِ وبَقائي (47)
وينهي سامي مهنا مسرحيته بكلمات وضّاح الأخيرة:
لا تحزني أمّ البنين وأكثري
دَوْسا على هذا التراب الصّاحي
سيموت وضّاح اليمان بجسمه
وتطيرُ قصّتُه بألف جناح (ص108)