كنت سعيدة بمطالعة الرواية، لا أخفيك فلقد قرأتها مرتين خلال الأيام السابقة، قرأتها أولا فضولا وشغفا أدبيا بجديد لا أدركه، وقرأتها مرة أخرى محاولة أن أكتب رأيي فيها.
سعاد شواهنه – جنين
رواية العبوة النازفة هي رواية للكاتب فهيم أبو ركن من عسفيا – الكرمل، صدرت بطبعتها الأولى عن دار فضاءات في عمان في العام 2010، وجاءت بطبعتها الثانية في العام 2015، عن دار الحديث في الكرمل. وفهيم أبو ركن شاعر وكاتب، من سكان قرية عسفيا على جبل الكرمل، أصدر سبعة كتب أدبية، في الشعر القصة والمسرح. صدر للؤلف العديد من الكتب:
1. بحر النور – قصص قصيرة وخواطر- دار النهضة، الناصرة: 1974.
2. في القدس العارية – شعر – دار الأسوار، عكا: 1979.
3. لن أقاتل أخوتي – شعر – دار المشرق، شفاعمرو: 1981.
4. إبراهيم بن أدهم (مسرحية – دار المشرق، شفاعمرو: 1987.
5. رحلة إلى الأعماق (قصص – دار المشرق، شفاعمرو: 1987.
6. إنسان حمامة (شعر- قصص قصيرة وخواطر – دار الحديث، عسفيا)1997.
7. شلال شوق (شعر- دار الكلمة – دالية الكرمل بالتعاون مع دار الحديث عسفيا) شتاء2007.
تقدم رواية العبوة النازفة في إطلالتها الخارجية من خلال لوحة الغلاف التي جاءت بتوقيع آية أبو ركن، صورة حية قلقة لروح الرواية وارتباك شخوصها، فالغلاف الذي يعرض في واجهته الأمامية، صورة لقلب نابض دام ينزف وجعا وقهرا، منفجرا انفجار قنبلة غاضبة على كل ما يحيط بها من ارتياب، فتتصاعد منه الأبخرة رمادية تعكر صفو جبال الكرمل العالية التي تمتد في الواجهة الأخرى للغلاف.
اللغة وبلاد مرتبكة:
يجسد الكاتب أبو ركن من خلال شخصية روايته المركزية أديب، صورة لبلاد مرتبكة متداخلة، تعكس ارتداداتها في جسد وفكر شاب فلسطيني، يعيش انتماءه الخاص لفلسطين التاريخ والوجود، ويحيا ارتباك الوجود في كيان دولة الاحتلال “إسرائيل” كفلسطيني عربي، ويعود في إطاره الطائفي الأضيق ليرى في ارتداد صوره في مجتمعه العائلي الصغير كأحد أفراد الطائفة الدرزية في فلسطين، ولوقت طويل ظل سؤال الانتماء الأكبر يلاحقه في عمله، في سفره، في بيته، في أحاديث تبادلها مع أصدقائه، في ارتفاع أبواق السيارات، في تسارع الأنظمة والقوانين المستحدثة في بلد مستحدث.
هروب … هجرة … وسؤال الانتماء:
أسئلة الذات المرتبكة، أصوات الأصدقاء التي لم تفلح يوما في تحديد صورة الهوية الذاتية لأي منهم، دفعت أديب في النهاية إلى التفكير بمخرج آمن، بهروب قسري من تداخلات الذات إلى عالم آخر لا يجد صعوبة فيه في التعريف عن نفسه، تساؤلات الأنا المتكررة، هل أنا عربي؟ هل أنا عربي مسلم؟ هل أنا عربي درزي؟ هل أنا درزي وحسب؟ وهل يسمح لي هذا بالجنوح أكثر لأتمنى أن تكون هذه هويتي وحسب؟ أنا فلسطيني؟ أنا أحمل تاريخا فلسطينيا؟ أنا في فلسطين المحتلة عام 1948؟ ماذا عن الخدمة العسكرية الإلزامية ؟ كان الهروب من كل هذه التساؤلات بالسفر إلى مسرب آخر أكثر ما استطاعه أديب، غير أنها الأقدار من صورت له الوجه الآخر لفلسطين المحتلة “الضفة الغربية” بصورة أحلام ووالدها، الذي ركب السفينة مقررا تفجيرها بركابها انتقاما لقتل ولده.
الأنا …. الانتماء ….. الإنسانية:
يأبى الوقت إلا أن يضع أديب في مواجهة ذاته، في مواجهة كل زوايا ارتياب هرب من صوتها، ففي السفينة التي استقلها مسافرا إلى أمريكا، باحثا هناك عن وجوه جديدة، وعالم لا يسأله عن انتمائه، عن أفكاره، اصطدم بصوت والد أحلام الذي يجهز في غرفته قنبلة الموت للسفينة و ركابها، إن صوت الروح الإنسانية، صوت الحق في الحياة، صوت الانتماء للوطن فلسطين، جعله يرفض دعوة أحلام ووالدها لمرافقتهما بضع أيام في روما، أيام كانت كفيلة بأن تخرجه من دائرة الموت التي رسمها والد أحلام لركاب السفينة، وكفيلة أيضا برد حق الصداقة التي وطدت جذورها بين والد أحلام ووالد أديب.
يجازف أديب بنفسه محاولا إيقاف القنبلة، وإلقائها في البحر، صوت الروح الإنسانية الذي دفعه لذلك، هو ذات الصوت الذي دفع أحلام لإبلاغ السلطات الإيطالية عن القنبلة في السفينة، وبتزامن فعل أديب مع بلاغ أحلام، بات أديب واقعا في مصير محتوم من الشك، إذ وجد متلبسا يحمل القنبلة، وسلطات الأمن الإسرائيلي في السفينة لا تعترف بنواياه الصادقة، ولا تبصرها.
أحلام وأديب يشكلان نموذجا من الجيل الجديد الذي يعرض الكاتب من خلاله رؤية جديدة، وتطلعا آخر للتعامل مع الآخر، المحتل، الإسرائيلي ما دام مدنيا، مسالما لا يخدش أحلام الفلسطينيين بالحياة بدفء، ولا يقض مضجعهم ليلا باحثا في دفاترهم عن أطياف شك وأخيلة ريبة، ويعرض الكاتب في الزاوية الأخرى صورة والد أحلام، وفي قلبه قنبلة موقوتة مشحونة بالقهر والخوف، بأبناء سرقت أعمارهم خلف الزنازين، وفي المعتقلات، تحت سنديان الأحكام العسكرية العالية، مدرجة بالبكاء على أرواح شهداء قضوا لا لشيء إلا أنهم حلموا بحياة ينعمون بها بحرية، وتعرض الرواية هاتين الصورتين بتواز مع صوت أديب وأسئلته التي لا تهدأ حول انتمائه الذاتي.
هكذا يبقى وعد الحياة للفلسطينيين دوما حلما على أمل.