عندما “صادروا” الشاعر عصام العباسي على “المحسوم” العسكري – فتحي فوراني

محمود درويش و”الناقدة الأدبية” العسكرية الحسناء

كان الذين يتعلمون اللغة العربية من “أولاد عمنا” الناطقين باللغة العبرية  قليلين نسبيًا..ومن أجل طالب أو طالبين من “أولاد العمّ”..أو طالبتين من “بنات العم”..ألقيت المحاضرة الجامعية باللغة العبرية..وكان المحاضر من “أبناء يَعرُب” الأقحاح الناطقين باللغة العربية!

أهي عقدة “الخواجا” التي طاردت البعض منّا منذ أكثر من مائة عام!؟

لست أدري!

ولا بد من الإشارة إلى أن علاقتي مع المحاضرين جميعهم يهودًا وعربًا كانت علاقة حميمة جدًا قائمة على الاحترام المتبادل..وكان بيني وبين بعضهم عيش وملح..ومع بعض آخر نشأت صداقات وكانت هنالك  زيارات عائلية متبادلة.

غير أن هذه العلاقات الطيبة لم يكن بمقدورها أن تغضّ الطرف عن بعض الملاحظات الموضوعية حول طريقة التدريس..ولغة المحاضرة!

**

لم يكن “أولاد العمّ” الذين تعلموا معنا  من الذين يموتون عشقًا في الحضارة العربية  واللغة العربية..ولم يصلوا لإلهة الجمال في عينيها الكحيلتين!

فقد كان لهم فيها مآرب أخرى..وكان لهم دور وظيفي!

هل أحكي لكم عن محمود درويش وعلاقته مع “الناقدة” العسكرية التي كانت تتربص بالمتنبي وتحاول إلقاء القبض عليه؟

لقد  اعتاد محمود أن يقوم بواجبه اليومي في زيارة مكتب “المراقبة الأدبية” العسكرية التي تدرس القصيدة وتضعها تحت المجهر وتفحص ما بين السطور وفوق السطور وتحت السطور..

وقد أنيطت  بها مهمة دراسة “النوايا الخبيثة” الكامنة في صدر شاعر البروة والتي تتضمنها الرموز الشعرية وإيحاءتها ودلالاتها  في النصوص  الإبداعية قبل نشرها في “الاتحاد”..

ألم تكن جندية “التسنزوره” المسؤولة عن فحص الإنتاج الأدبي وإعطاء الضوء الأخضر أو الأحمر أو الأسود..طالبة جامعية تخرجت معنا من قسم اللغة العربية في إحدى الجامعات الإسرائيلية؟

  • عندما “صادروا” عصام العباسي على “المحسوم” العسكري

ذات يوم جاءني الصديق الشاعر عصام العباسي بعد غيبة أيام قضاها عند خالته في رام الله!

وفي طريق عودته مرورًا بمدينة جبل النار “نابلس”..تتوقف السيارة بأمر عسكري..

قف!

“محسوم” عسكري!

فقد امتلأت الطرقات  بـ”المحاسيم”!

ونحن الآن في “المحسوم” المناوب!

ويأمر جلاوزة “المحسوم” العسكري ركاب السيارة إبراز هُوياتهم.

و”المحسوم”..لغة  في الأرض المحتلة..وكابوس يحتل مساحات واسعة من القاموس العسكري اليومي لاحتلال..

وجاءت الـ”محاسيم” بجحافلها لتحتل اللغة العربية وتدنس ارضها  فتمحو كلمة “الحواجز” من قاموس الأبجدية..وتنصب على أنقاضها  “المحاسيم”!

**

– فين الهوية بتاع إنت؟

يسأل الجنديُ الشاعرَ

وتروح اليد المرتبكة تفتش عن الهُوية في الجيوب..جيبًا جيبًا..ويقبض الشاعر على حفنة فراغ..ويخرج يدَيه من جيبه صفر اليدين!

لقد  فقد  بطاقة الهُوية!

وفقد بطاقة الصحافي!

وليس معه أية وثيقة تدل على هُويته!

هُوية الشاعر لغته العربية وشِعره الوطني..وشَعره الشبابي..وقلم حبر الماء الذي يزيّن جيب معطفه..وخطه الجميل..وابتسامته الخجولة..وهندامه الأنيق..وقامته الشاعرية الأبيّة!

جميع الركاب يبرزون بطاقاتهم إلا الشاعر!

السيارة مصلوبة أرضًا  تحترف الانتظار.. والركاب ينتظرون “فك الحصار” عن الشاعر..ويتأففون..ففي تموز تلتهب المياه في الكوز..ووجوه يومئذ عليها غبرة!

ولا حول ولا قوة إلا بالله..

**

يطلب  الجندي  من  الشاعر العباسي أن يتوجه إلى غرفة الضابط الميدانية..على مقربة من الحاجز العسكري..ليبتّ  في  أمر شاعر بلا هوية!

ومن بعيد..يطل الضابط من الشباك..فينهض عن كرسيه ويخرج من غرفته ويهرع مرحبًا بالشاعر العباسي..

تتهلل أساريره..ويفتح ذراعيه:

  • أهلا عصام..بروخ هَبا..ماذا تعمل هنا؟

وكيف خال عبد الله؟!

 

من أين للضابط معرفة اسمي؟!

من أين يعرف..الكاتب عبد الله!؟

يسأل عصام نفسه..مصعوقًا!

  • من أين تعرفني؟ ومن أين تعرف عبد الله يا حضرة الضابط؟
  • لقد تعلمنا معًا اللغة العربية في الجامعة..عبد الله صديقي على مقاعد الدراسة..نحن أصدقاء..جلسنا متجاورين على مقعد واحد..وكان عبد الله يساعدني في تحليل روايات نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وقصص يوسف إدريس..درسنا القرآن معًا..درسنا سورة الزخرف..وتعلمنا قواعد اللغة العربية معًا!

وانقطعت أخباره منذ تخرجنا من الجامعة..

  • ومن أين تعرفني؟

يسأل الشاعر

  • لقد جئتَ مرة إلى الجامعة برفقة صديقي عبد الله..وعرّفنا عليك..كيف حال عبد الله؟ ماهي أخباره؟

فحدّثه الشاعر عن أخبار عبد الله..وعن درب الآلام!

  • ماذا ترغب أن تشرب خواجا عصام؟ شاي؟ قهوة؟ نس كافيه؟ كافيه بوتس؟ كافيه تركي؟

يجلس عصام شاعرًا معززًا مكرمًا مكللًا كبرياء..أمام الطالب الجامعي ضابط “المحسوم” الذي نهل من منابع اللغة العربية والقرآن الكريم والأدب العربي ..في جامعة حيفا!

يرتشف الشاعر من فنجان القهوة على مهله..ويخرج من المكتب  برفقة الضابط..إلى “المحسوم”..ويدخل إلى السيارة سالمًا آمنًا!

**

وهكذا..

يتخلص عصام من فخ “المحسوم” بسلام بفضل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس  وسيبويه وسورة الزخرف!

ويعطي الضابط الضوء الأخضر..فيُرفع الحاجز الكهربائي..وتواصل السيارة مسيرتها ميممة وجهها شطر لؤلؤة الكرمل!

وسيري يا مباركة!

**

إسمع يا عبد الله!

خُذ منّي!

يدرسون اللغة العربية..ليس حبًّا بنجيب محفوظ أو توفيق الحكيم أو يوسف إدريس أو ابن خلدون أو ابن فارس أو ابن جنّي أو..وليس حبـًّا  بسيبويه أو رشيد الشرتوني وقواعد اللغة العربية!

يدرسون سورة الزخرف ليس حبًّا في القرآن الكريم وتعاليم الدين الإسلامي..أو احترامًا لأديان “الأغيار” وأنبيائهم!

جاء في القرآن الكريم قوله عزّ وجلّ: “ما تلك بيمينك يا موسى؟

قال تلك عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى”!!

اللغة العربية..عصا يمتطيها “المستشرق الأبيض”..ويشهرها سيفًا مصلتًا فوق رؤوس “الهنود الحمر”!!

يتوكأ عليها في نبشه لأسرار “العقلية” العربية..ويهش بها على عباد الله الغلابى  والمسحوقين..وله  فيها مآرب أخرى!!

**

 

سيبويه وابن جني وابن فارس..سفراؤنا في تركيا!

انفجار في كنيس يهودي في إستنبول!

قتيلان وخمسة جرحى!

أمام الشاشة الفضية الصغيرة..نشاهد الأخبار في فضائية الجزيرة  القطرية!

نتابع الفضائية “الوطنية الأولى” بالزيّ الأزرق والأبيض..والأخضر!

يقول مقدم البرنامج باللغة العبرية الفصحى: “والآن ننتقل إلى إستنبول..معنا في الأستوديو سفيرنا الدبلوماسي في تركيا!

يظهر السفير..يملأ الشاشة..

إنه هو هو..بأمّ عينيه!

وتنهض الذاكرة من نومها..وتفرك عينيها ولا تصدق ما تراه!

إنه الطالب الذي تعلم معي اللغة العربية في الجامعة العبرية في زهرة المدائن..كان يجلس إلى جانبي مؤدبًا لا “يهش ولا ينش”..وكان يصغي للمحاضرات عن الفصاحة في اللغة العربية عند بروفيسور حاييم بلانك..ويتعرف على سيبويه وابن جنّي وابن فارس وآخرين. لقد تعلمنا معا  عن معنى “الفصاحة” في اللغة العربية..كان “يتوكأ” عليّ في الكثير الكثير من المعلومات عن أسرار الجمال في لغتنا القومية!

**

من فوهة البندقية ينظر “الرجل الأبيض”..إلى الإنسان العربي ولغته القومية!

فمتى ينظرون من “فوهة اللغة” إلى الإنسان والحضارة والتراث..وإلى حدائق الزنبق والرياحين والورد الجوري التي تضوع من الأدب الإنساني؟

ومتى يصحو الضابط والسفير من الغيبوبة السياسية؟

ومتى تتصالح الجزيرة مع المحيط؟

أنقول ذَرهم في غيّهم يعمهون!؟

إنها الأيام دول!

**

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*