أبو حلمي والمحقق ابن كنعان
استمرت الحياة في عين حوض أبو الهيجاء ببطء، حيث عانى السكان من صعوبتها، إلا أنهم تأقلموا مع الوضع الراهن، حيث كانت بعض العقبات تزول بفضل جهود الجد، منها افتتاح المدرسة عام 1962، ومنها كذلك مد خط مياه من “الكيبوتس” حتى الوادي، وبذلك استغنى أهالي عين حوض عن الذهاب وجلب المياه من “المشاريع” في بستان، وكانت ماسورة المياه بقطر “إنش واحد”، وفي نهايته حنفية لملء الجرار أو لري قطعان الماشية، وهذه الأمور سهلت على أهالي القرية بعض الشيء، لكن كان طموح أبو حلمي أكثر وأكبر، وبينما هو يخطط في سبيل بناء قرية وتحصيل تسهيلات في عام 1963، اعترضت أبو حلمي مشكلة كادت تزعزعه، لولا رباطة جأشه وإصراره على أنه على حق.
كانت بداية القضية هي تعيين أحد ضباط الشرطة في التفتيش عن رفات عائلة الضابط اليهودي موشيه لزروفيتس، الذي اختطف بين 16-17/8/1938، وهو “شلومو بن القنه”، على يد يوسف أبو درة قائد الثورة في حينه، وقد وردت القصة في كتاب “قصة تحقيق”، وهو عبارة عن أوراق مفكرة سجل كاتبها يومياته، وهو المحقق بنفسه، ووردت القصة في الكتاب بتسلسل الأحداث. كتب ابن كنعان يقول: “في الليلة بين 16 و17 آب من عام 1938، هاجم حوالي 200 عنصر من عصابة أبو درة سجن عتليت بهدف تحرير أسرى، وكان إطلاق نار كثيف، واستطاعوا تحرير الكثير من الأسرى العرب، ونجحوا باختطاف نائب ضابط المعسكر موسى لزروفيتس (40 سنة) وزوجته برورية (31 سنة)، وأبنائه الثلاثة: راحيل (12 سنة)، ويفرح (8 سنوات)، وحجاي (سنتان)، وكذلك شقيق برورية إلياهو كرينجر (31 سنة). وجاء في الكتاب أن عصابة أبو درة خطفت، بالإضافة إلى عائلة لزروفيتس، شرطيّاً عربيّاً اسمه إنعام جابر، وآخر كان بجوار برّاكية الضابط موسى”.
ويورد ابن كنعان في كتابه تسلسل قصة الضابط موسى وزوجته بحسب نتائج تحقيقاته التي تشعبت وتفرعت وشملت الكثير من الأسماء والمواقع، إلا أنه ذكر أن “العصابة عندما خطفوا العائلة، انسحبوا في طريق بالقرب من عين حوض، وقد ذكر أحد الشهود أن يوسف الحمدان، الذي كان مع أبو درة هو الذي أطلق النار على الضابط موسى بعد أن شتم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فصرخت زوجته وشتمت الإسلام”، كما ذكر ابن كنعان، كي يُسمع صوتها وينكشف الثوار. وقتل شقيقها ودفن الجميع في منطقة عين حوض، بينما لم يُمس الأطفال بأذى، ويدعي الكاتب أن دفنهم كان على يد أهل عين حوض، وبأمر المختار زيدان الذي أعطى الأوامر وسافر إلى الدالية ومكث هناك عدة أيام في ضيافة أصدقائه، إلا أنه، وخلال نزاع بينه وبين أحد أفراد العائلة على قطعة أرض، هُدِّدَ المختار من قبل غريمه بأنه سيكشف للضابط الإنجليزي عن قبر المخطوفين، وحسب ابن كنعان، فإن المختار في حينه أرسل اثنين من العائلة ليخرجا الجثث ويحرقاها وينقلا الرفات إلى مكان آخر.
تجدر الإشارة إلى أن المختار اعتقل بعد الوشاية، وعزل من منصبه، ومكث في السجن حوالي سنتين، حيث سجن في سجن الرامة 6 أشهر، ثم نقل إلى سجن مسحة، ومكث هناك سنة ونصف السنة، وكان عزله من وظيفة المختار على خلفية الحادث، ونُصّب أحمد محمود، شقيق الشيخ أبو حلمي. وحسب شهادة الحاج معين، فإن والده كان أصغر مختار يتقلد هذا المنصب في البلاد، وكان أبو الهيجاء أول مختار للقرية.
بعد النكبة بسنوات عديدة، نشرت الصحف العبرية، ومنها صحيفة معاريف، مقالاً تفصيليّاً عن القضية، وظهرت أسماء من أبناء العائلة كانوا قد قدموا مساعدة لابن كنعان، حسب روايته، مع العلم أن منهم من نفى أن يكون له أي ضلع في القضية، باستثناء أنه سئل عن الموضوع، مثل حسين زيدان الذي سكن في كفر قرع، كما ظهر اسم العرباسي في كتاب ابن كنعان، وعلي نمر أبو الهيجاء الذي أرشد ابن كنعان إلى تون الكلس الذي عثر فيه على عظام القتلى الثلاثة، وبينهم امرأة الضابط في منطقة “المحمحنية” قرب عين حوض المهجرة.
وهنا سؤال يطرح نفسه: ما علاقة الشيخ أبو حلمي بهذه القضية؟.
وحسب ابن كنعان، فإنه يقول في كتابه إن علي نمر أبو الهيجاء عندما جاء ليرشدني عن مكان دفن الرفات، سألته: كيف نقل الرفات إلى هذه البئر، وهي حرقت في مكان آخر؟ لا بد أن يكون هناك من نقلها، فقال: نقلت على جمل كان لـ”أبو حلمي”، وهنا دخل الشيخ إلى دائرة المساءلة. وقد سبق اللقاء بين المحقق والجد أبو حلمي، أن نشرت صحيفة معاريف في 7/8/1963 تقريراً عن القضية، وجاء فيه تشهير بشخصية أبو حلمي، وعدم تعاونه مع المحقق، ثم ذكرت الصحيفة أن أبو حلمي كان فلاحاً بائس الحال يملك جملاً واحداً، وعندما قُرئت الصحيفة، كان لا بد من الرد على ما ورد فيها من قبل الشيخ، فكان الرد في مقال نشر بعد ثلاثة أسابيع من المقال الأول، وتواترت الصحف بالنشر عن الموضوع.
وقد كانت بعض التقارير قاسية وتتعلق بمستقبل إمكانية بقاء القرية الجديدة في مكانها الحالي، فحاول الشيخ تلقي شبه حماية من جيرانه “الخواجات” الذين كانوا على يقين أنه بريء من تهمة نقل رفات المقتولين، وقد سبق أن انتدب ابن كنعان اثنين من اليهود اليمينيين ليتحريا حقيقة أبو حلمي، وكان من بينهم ديفيد بن ديفيد، الذي قال: “هذا رجل صادق ولن يكذب أبداً”. ومن جهة أخرى، شهد “الاتشي مامبوش” مثل هذه الشهادة، ومن هنا خفت ملاحقة الشيخ التي عانى منها طويلاً واعتدي عليه في حيفا، حيث دهسه سائق دراجة نارية وهرب في فترة شيوع القصة، وعلى خلفية نشر القصة بوسائل الإعلام. ومرة أخرى، حاول سائق باص “إيجد” أن يسقطه عن درجات الحافلة بينما همّ بالنزول على محطة عين حوض على شارع حيفا- تل أبيب القديم.
وشهدت على هذه الحادثة ابنته سحر من الزوجة الثانية، التي كانت بصحبته في تلك السفرية، فتقول سحر: عندما صعدت درجات الباص مع والدي الشيخ، بدأ السائق يصيح بصوت عال قائلا “هذا قاتل ابي” ووالدي الشيخ يقول: انا لم اقتل احد، وكان المسافرون ينظرون الينا، انا ارتعبت كثيرا واعتقد ان والدي خاف لكنه لم يظهر ذلك ونزلنا بسرعة من الباص.
هذه الحوادث وغيرها حدثني جدي الشيخ عنها بينما كنت أنتظره في مستوطنة “نير عتصيون”، وقد أعددت له الفرس ليعود إلى البيت في وقت لم تكن تستعمل فيه السيارة للسفر.