مِن محاسن الاجتياح الكوروني الذي استبدّ بنا وغيّر مجرى حياتنا أنّني تعرّفت على فرقة “47Soul” الفلسطينيّة وموسيقاها الفوضويّة المرتّبة، بتقنيّاتها المختلفة، وأدمنتها.
جاءت اتفاقية سايكس بيكو المقيتة لتقسيم مدن الشام وتبعتها النكبة واحتلال فلسطين، ممّا عرقل التواصل العربيّ وتجزئة شعوبه، ومن هنا فكرة إقامة الفرقة الموسيقيّة المغايرة التي تهدف إلى كسر الحواجز بين أبناء شعب واحد ذو ثقافة وحضارة ولغة واحدة ويعجز عن التواصل والتنقل بين مدنه، فاسمها يوحي بحريّة التنقّل قبل رسم تلك الحدود، وكذلك شعارها (كلمة “شام” داخل مثلّث مقرونة بكلمة “ستب”) يحمل مقولة واضحة المعالم: موسيقى بروح شاميّة تعانق “ستب” الإنكليزيّة (step)، أي الخطوة، لخلق موسيقى إلكترونية جديدة كونيّة تخاطب العالم جمعاء.
عرفت الفنّان ولاء سبيت منذ صغره، حيث شارك وابنتي في فرقة “سلمى” الحيفاويّة، قبل انطلاقه للعالميّة حاملًا رسالة أهله الذين هُجّروا من إقرث الجليليّة إثر النكبة، فنجده يتناول تجربة جرح الوطن وعذاب الفلسطينيّ الذي تشرّد من بيته ووطنه وعانى القهر والحرمان، إلا أنه يحمل أمل العودة إلى ذاك الوطن الساكن في وجدانه.
وها هو ولاء يلتقي بطارق أبو كويك، حمزة أرناؤوط، ورمزي سليمان ليؤسّسوا مجموعة موسيقيّة فلسطينيّة مغايرة، يمثّلون الطيف الفلسطيني بكامله، من الوطن والشّتات، اخترقت حدود الوطن لتخاطب الآخر ونجحت بحرفيّة ومهنيّة بالجمع ما بين الدبكات والجوبي والمجاويز الإلكترونية، والمزج بين الإيقاعات الشعبيّة والموسيقى الغربيّة، بطريقة ذكيّة ووصلت إلى آذان وقلوب سامعيها في شتّى أرجاء العالم، غير متقوقعين في الوطن ليصير جمهور الهدف عالميًا بعيدًا عن “إقناع المقتنعين”.
استمعت مرّات عديدة إلى ألبوماتهم الثلاثة: “ Balfron Promise“، “Semitics“، Shamstep“” واستمتعت (أنا لست بموسيقيّ لكنّي أعشق سماعها)، وجدت موسيقى وفنًّا ووطنًا عابرًا للحدود، تتحدّى بلفور وتصريحه المشؤوم، تدور بين الواقع المرّ والواقعيّة والسخرية السوداويّة القاتلة (على سبيل المثال أغنية “رف الطير”: “مشّي الصَف ومشّي السير، شوف البوست، واعمل share، طمّن أهلي إنّا بخير و like صغير بيكفينا”.
وجدت جمهورها عالميًا، فالموسيقى لغة عالميّة تفهمها وتتذوّقها حتّى لو جهلت لغة كلماتها ولم تفهم معانيها، قد تعجبك وترقص عليها أو تفرح أو تحزن أو تبكي، وهذا تحدٍّ كبير، عليك أن تُبدع لتصل إلى المتلقّي عبر اللحن والإداء فتجعله يستوعبها ويفهمها بالإشارة! فأن تفهم اللغة لا يعني أبدًا أنّك تفهم الموسيقى وتتذوّقها.
أغاني الفرقة تدمج اللغة العربيّة والإنجليزيّة بعفويّة مطلقة وانسيابيّة دون ابتذال ودونيّة لتحكي حكاية النكبة والتهجير، وحكاية الوطن، معاناة الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال والمتشرّد في الشتات وكلّ بقاع العالم وظروفه المعيشيّة اليوميّة والقهر والحرمان.
لفتت زوجتي سميرة انتباهي لمقولة ثاقبة جاءت في نصّ مكتوب ظهر على الشريط المصوّر: “تمّت حماية جميع حقوق الحيوانات في هذا العمل”، وتلتها مباشرة “بينما لا يعيش أي من هؤلاء البشر مع حقوقهم الأساسيّة حتى الآن”. يا إلهي كم هي قويّة ومعبّرة!
تحمل الفرقة رسالة عابرة للحدود والشعوب والثقافات رغم الاختلاف، نجحت في اختراق الحواجز الجغرافيّة، السياسيّة، الثقافيّة والفكريّة لإيصال صوت ورسالة من لا صوت لهم رغم اختلاف الأذواق لتصير سفيرًا متألّقًا لقضيّة عادلة في طريقها إلى النسيان لتثير التساؤلات لدى كلّ مستمع عنده ذرّة من الإنسانيّة، بعيدًا عن الشعاراتيّة المهزومة وعن استجداء رحمة الغير وبعيدًا عن الشعور بالضعف والدونيّة.
لافت للنظر أنّ الفرقة استغلّت العولمة والتقنيّات الحديثة لتتحرّر من القيود والتكلّس والتقوقع لتوصل رسالة إنسانيّة، قوميّة وسياسيّة وتجعل السامع يتساءل: ما هو الجليل وأين يقع وما ذا يعني؟
شدّتني أغنية “حبّيت القمر”:
“حبيت القمر طِلع القمر اصطناعي،
شميت الوَرد طلع الوَرد بلاستيكي،
يقطع هالعمر ما أسهل فيه خداعي…
طرت أنا في السما،
تبحبش عاللي ببالي،
بسرعة انصدمت بمشروع استيطاني.”
وجدت في أغانيهم وموسيقاهم رسالة تحدّ وانتماء… فنًا ملتزمًا؛ نعم، هناك فنّ ملتزم وليس فنّانًا ملتزمًا! وحكاية شعب، تحكي القضية بصوت وأداء فنّانون ذوو رؤية.. ورؤيا، مرتبطون بالبلد والقضيّة، فنّانون مرهفي الإحساس… مبدعون.
وأنهي بأغنية جديرة بأن تكون شعار الساعة، “طلبوا الهويّة“:
“دقدق ع المجوز و دقدقنا، ما ضل حدى الا تسلّقنا، تقلقنا تنعرف مين إحنا، و احنا مفرِّقنا الّي مانحنا، وتفضل على الصف، الكل يتفضل على الصف، هاي طلبوا الهوية، يابا طلبوا طلبوا الهوية، إجا يرمح ويقنعنا بصفقة، وانا واقف وبتصدّى الصفعة، يا شعبي سمّعني الصفقة، ولا تفتح و لا تقلب صفحة، وتفضل على الصف، الكل يتفضّل على الصف، هاي طلبوا الهوية، يابا طلبوا طلبوا الهوية، هذا الصف كراهيتهم، صف همجيّتهم، صف بشاعتهم، يصف إستقبال يوسف إذا جاء، بوصل على باب مغلق، بنوا اقفاص للأطفال لإثبات إنسانيّتهم، لو بشوف الجمل حردبته بيوقع وبفك رقبته، باختصار مش احنا عبرنا الحدود لا، يابا بلعكس الحدود عبرتنا، من غزة الضفة القدس للمكسيك، حنسقط، جدار الخرساني ونبني محله جدار بشري… وتفضل على الصف، الكل يتفضل على الصف، هاي طلبوا الهوية… يابا طلبوا طلبوا الهوية”.
صدق من قال: “أعطني فنًّا أعطيك شعبًا”.
حسن عبادي