دراسة نقدية في شعر ماجد الربيعي
العاطفة وما ينقصها من البواعث هو السر في جمال قصائد شاعرنا ، ما أكسبها رقة و إحساساً به ، ويكفي لإدراك ذلك أن نتصور المعاني التي تزخر بها تلك القصائد بصدق ِ سريرة ٍ لجأ اليها بالصقل والعقل . فلم تغب عنه العناية اللفظية اضافة الى صلادة المعنى وعذوبة الفكرة. وليس يمنعنا شيء من أن نتذوق تلك المرارة التي تمثلت في عذابات أذكتها فيه معشوقته , اذ أطلت على قلبه المطاوع حتى تبين لنا افتتانه الكبير بعينيها وهو يشع ضياء ، وتلك قولة صدق منه لأن اطراده وإحساسه باللذائذ وحسن الوجه الذي تمناه قبل تصحّر عمره وقبل تولي صباه هو احساس مزيج من الإعجاب والرغبة . اذ اننا نتأمل اطراد العاطفة في مصراعيها حين يقول :- فان قلتُ تُب يا قلب مالك والهوى يضجّ بأضلاعي وعمداً يمانعُ فلا الشيب ينهي القلب ان بان وجهها ولا هي تنهاني ولا القلب قانعُ فهاهو يصل بنا الى ما هو أبعد من الإعجاب الذي هو أخف مراتب الحب ، وهوالظمأ لعينيها وهو أقوى مراتب الحب :- دون عينيك ظامىءً يا سليمى فاغدقيني من الرضاب وزيدي فهي الرغبة المعتدلة لا الجامحة , تلك الرغبة التي لا تنبو عنها ارادة الشاعر , فالتناسب الموجود في أنواع معانيه وأحاسيسه التي ضمنتها قصائد عشقه وشوقه من اعجاب واحتشام الى عشق ورغبة باستواء تام مع عذوبة التعبير وسلامة الذوق وحسن الكناية عن رسالة لا تبلغ الا للفم كما نجد ذلك جليا في قصيدته( ومتيم ) . ومن ذلك نعرف الحس الفائر لديه حيث استقامة المعنى والأداء يسوغها للقارئ بكل لهفة اتفاقاً مع اضطرام العاطفة وقدرتها . ولشاعرنا الربيعي لغة خاصة في الغزل يستمد مادته من حكية سكنت نبضه بجزالة لفظ ومتانة بناء , فهو لايقيّم حساباته على اساس عرضي , وانما على اساس الصبا وقلقه المتجدد , والطيف وصداه المتردد , لايجهل من شروده شيئا ولا يهمل من احجياته لغزا ولا يحاول ان يخفف من علانية تلكم الاشياء , فهي طموح دائم من هوى قد أثمله ومن رضاب قد اوقظه . ان اضطراب شاعرنا لقيدٍ طوّق معصمه وتيهٍ اخذ بلبابه لم يسلّمه الى اليأس والتشاؤم رغم كل المعاذير التي تنتحلها تلك الحبيبة المتمثلبة بقلب عنيد وشذى محير للأفئدة . حتى ليبدوَ شاعرنا شقياً في دنياه الحالمة ليس في استطاعته ان يمحو من بؤسه وشقائه لهذا الغرام الذي قد اخذ منه ماأخذ فلا عبرات تسلّيه , ولا بكاء يعزيه وهو اذ يعجب كل العجب من هوى قد شغله وتيمٍ قد شمله , فانه يطلب رحمة تحوطه وعطفا يلوذ به , لان كل حياته مبنية على السير في دياجي ذلك الغرام , والفزع من هيبة ذلك الظلام , فحياته مليئة بالقفار والخرائب , والهواجس التي تتناوشه , والهموم التي تحوطه , حتى باتت حبيبته اسما عذبا تنطق به شفتاه . وامام حسه الوطني يعيش شاعرنا حالة الاستغراق بهواجس مضنية لشعب عاش ظروفا لاتطاق , انه يحلم …. ويحلم , لكن عقارب الشك تدبّ في حناياه وتيارات الدخان تملأرئتيه حتفاً , فهو ولا يكافح الا كما يكافح كادٌّ لاجل سقف لجدرانه الواهنة يقيه حرا وبرودة , وهولا يحلم الا كما يحلم مواطن بسيط لاتتعدى أمانيه لقمة خبز , فهو يستغرق في حلمه ليخرج لنا آية من آيات فنّه الباقية مدى الزمن وهو بذلك لا يستنفد مشاعره الا ليعيش كريم في ظل عاصفة يمر بها وطنه وهو يتأمله جيداً حتى راعه من وطنه ما تبدل منه , فالعالم الذي استيقظ عليه هو غير عالمه الأول العريق في سكينته وفي قدمه والذي ألفهُ شوقاً موقداً في صدره يطوف بأرضهِ التي قدّستها دماء أحراره التي عمّدته طوال حياته مردداً (لبيك يا حسين ) وهو مازال على العهد الذي لم يخلفه في كل حجة , ينام على ثقته حتى أصبحت الألفة رفيقاً بين نومه ويقظته , منادياً الرمز الذي اتشح به وطنه وتكلل بدمائه, معلمه الأول الامام الحسين عليه السلام على مدار القرون والأزمان , ذلك المعلم الذي يمهد السبيل الى الحرية ويقض مضاجع السلطان السياسي والاستغلال الاقتصادي , فهو يخاطب الامام عليه السلام :- على العهد لم أخلفه في كل حجة أتيتُ وفي صدري من الشوق موقدُ ان شاعرنا يحمل بين أضلاعه قلباً مكلوماً , ودفتراً ودواة , يسوّد ما يخالج مشاعرهُ حتى اذا اشتعل أوارُ وجدِهِ اعتكف في داره مترهباً ليخلص لفنّه وينقّح صفحاته متأملاً إياها , حاسباً لكل حرف حسابه , فمشاعره لا تنتهي عند حد , وأوجاعه قد تزاحمت عليه . ورثائيته لشقيقه الفقيد الذي سلخ برحيله سنين من عمر شاعرنا ،هي أمثل صورة امامنا لمعرفة صفة اخرى من صفات شخصية شاعرنا واصالته، فهو شاعر وفيٌّ دائما للراحلين من رفاق رحلته , يشيعهم تشييعاً خاصاً جداً وهو يستشعر فقدهم بوجدانية الشعر الذي هو لغة قبل كل شيء وبعد كل شيء ,فيعرض علينا صورة رسمها بريشته التي لاتخطئ في الوانها وظلالها، فيثبت ان الحزن والأسىٰ ليس محظوراً على الشعراء حين يبلغون قمم الغزل ، فيصبغ هذه المناسبة وهجاً من ذاته الآسية … عشيّةَ صاح البين ،والبين مرهقُ تمنيتُ روحي قبل روحك تزهقُ وهو اذْ استولت عليه هذه الفجيعة فأنه احال احساسه الذي لامس صدق فؤاده الى طاقة شعرية دون أحاجٍ أو ألغاز ، فساوره القنوط ولفّتْهُ سحابة الشؤم ،وكأنه يموت كلما لامستْ شباةُ قلمهِ القرطاسَ اثناء كتابة مرثيته، فتسربتْ من وجدانه تأملاتٌ ساخنة أضفتْ على قصيدته منطقاً ريّاً وذهناً طريّاً،فتحرك في دائرة موسيقية رحبة لا يعيقه وزنٌ ولا قافية ،في تعبير مطلق أزان به أنغامه لموشحة أندلسية ركبها بحذاقة فنان، وفطرة لبيب، فاستشرف صحة المعنى، وجزالة اللفظ ،واستقامة اللغة، واصابة الوصف، واستعارة التشبيه لفقيده المستعار له، بصياغة إلتأَمَتْ مع ما اضطرب في فؤاده من مشاعر وذوق غير عقيم رغم صرامة نظامه الشعري ،فصنع ابداعاً في مرثيته( في وقت ذهوله عن الكلام بسبب هول الفاجعة ومرارتها) بصور تتدبرها الحواس قبل استرسالها وتوظفها بمعنى تفجيري محمود ، والابداع في نظر اهل الفن هو من اعسر الامور واشدها. وصور شاعرنا متعددة متمردة بشواظها الذي ينفح في أوصاله المتقطعة عبر ثورة احساسه ونار غضبه فنراه يصرخ بكل كيانه:- (اناديك امهلني ….، اناديك لاتعجل …..) فيستصرخ تجارب شعره في ذاته المنكسرة :- (اخي يا حبيب قلبي ….، اخي عيل صبري…..، وكيف احتملت الرمل…، فمن لي يصد العاديات ….، ومن لي لهذا الدمع …..) متعلقاً بفقيده باوردته الحية مجدداً له العهد (تريدك روحي ……) رغم خطاه المتكاسلة (فخطوي يخونني …….) ونفسَهِ الذي ينساب من رئته المتهاوية وهو يحاول النفخ لناره المقدسة بكل يأس (ولكنما الدهر اللئيم مفرّقُ )….