مريد البرغوثي والمتوكل طه وفاروق وادي نموذجاً
تسكنني رام الله كما تسكن أمي وحماتي، وحقّ لها أن تسكن قلب كلّ من رآها ورضع من حنانها؛ لأنّها البسمة على شفاهنا، وموّال عشقنا لكلّ جميل في هذا الوجود.
منذ أن عشقنا الفرح وأنا وأمي نجوب دروب رام الله في ( عين منجد ) و( باطن الهوى ) والحسبة القديمة، نمتّع ناظرينا بجمالها الأخّاذ؛ فوجهها قمر منير في ليلة حالكة، وجيدها بحر من المرمر، وعيونها تذرفان عسلاً طبيعيّاً، يكفيك أنْ تشرب منه مرّة واحدة لتصبح عاشقاً متبولاً. أمّا نسمات هوائها الصيفيّة فهي رخيّة العبور، تدخل إلى حنايا الجسد لتهبه شباباً دائماً. هي امرأة من جنان الخلد، وهي النّقاء وصفاء القلب. هي وجه الأرض والسعادة كلّها، هي الإسراء إلى أحلامنا اللازاورديّة الجميلة، والمعراج إلى طفولتنا البهيّة التي تركناها هناك ولم يعرف جسدانا يا أمي الكبر بعد، هنالك تركنا أحلامنا وآمالنا معلّقة على بئر (عين منجد) لعلّنا نعود إليها ذات يوم. آه يا أمي كم اشتقنا لرام الله وكم اشتاقت هي لنا، أما زالت عروسة بقدّها الميّاس، وضفائرها السوداء الجميلة؟ أما زالت تتقن لغة العشّاق وكلّ أغاني الطفولة البريئة؟
منذ سنوات طويلة شكلّت رام الله صورتها البهيّة في وجدان محبّيها، فكانت حاضرة بكلّ بهائها في عقولهم وكتاباتهم الأدبيّة وسيرهم التي لامست شغاف قلوبنا، فها هو الشاعر الكبير مريد البرغوثي يفرد الجزء الأول من سيرته الذّاتيّة (رأيت رام الله )
كي يقدّم لنا ذكرياته عنها بعد غياب طويل عنها دام ثلاثين سنة، ( رام الله السرو والصنوبر، أراجيح المهابط والمصاعد الجبليّة، اخضرارها الذي يتحدث بعشرين لغة من لغات العالم، مدارسنا الأولى… ) ( 1)، ويقول: ( تجولت في شوارع رام الله يوميا تقريباً، أردت استعادة تلك الإيقاعات والصور العتيقة للمكان… كان الإيقاع محموماً كأنني أريد أن أستعيد رام الله بأكملها دفعة واحدة إلى حواسيّ الخمس ) ( 2 ) . ويقول: ( تلك الرام الله التي أستعيدها بخيالي هي الوهم ذاته الآن .إنّها ليست رام الله التي أقدّمها لتميم اليوم. كأنّها ومعها القاهرة وبيروت ودمشق وكلّ المدن العربيّة، كانت وهماً في خيالاتنا لا حقيقة ) ( 3) .
واضح من النصوص السابقة أنّ لرام الله صورتين متناقضتين، صورة بيضاء مشرقة كانت في مرابع الطفولة والشباب، وصورة سوداء بائسة حاضرة الآن، ولعلّ السبب واضح جلي لدينا؛ حيث الاحتلال والامتداد العمراني الذي طمس لوحاتها الجميلة التي تسكن الطبيعة، واستبدلها بعمارات شاهقة ومحال تجاريّة وهواء غير نقي، إضافة إلى البيوت المهجورة التي ما زالت أبوابها تتنظر سكّانها بلهفة غامرة، ولهذا يحلو لمريد أن يحتفظ بالصورة الأولى التي أحبّها لرام الله حتى هذه اللحظة، ومفارقة الصورة الثانية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
لا تختلف صورة رام الله في سيرة المتوكل طه عن سابقتها، إلا في إسباغ اللغة الشاعريّة عليها، والتي تتجلّى في قوله: ( مدينة صغيرة بحجم القلب، لكنّها أميرة المدائن، … تحيلنا رام الله إلى كائنات مسّها الهوس فجأة، لكنها تكتسب رغبة الانطلاق والاختلاف، فنخلع ثوب القرى باتجاه بوابات المدينة المشرعة، ونمشي الخيلاء خفّة وعياقة، مسرعين تحت ظلالها الهادئة، قبل أنْ يُلفّقوا لها علباً حجريّة جديدة، أضاعت صدرها المعشب وبساطها الباذخ ونوافيرها التي تحتفي بالطيور. وثمّة ضواح جديدة جعّدت أجنحتها كأنما تجرّأت عليها السنوات، ودهمها الهرم ، فاكتسبت مع الضوضاء غلظة، واغتربنا فيها قليلاً، وغارت أحلام الصبا ) ( 4) . ويقول في نصّ آخر: ( كانت المدينة قبل أربعين عاما، هادئة كعباءة النبيّ، لا ضجيج ولا زحام ولا غبار، تحرس طرقاتها المعبّدة أسراب الحور والمطاط وحواكير اللوز والزيتون، وما إن تذرعَ أحد شوارعها ساعة الأصيل حتى تعبّئ صدركَ الفراشات والأغاني البعيدة، وتمشي في ليل شوارعها النهارية، فتأتيك نجمة تضع ذراعها بذراعك وتماشيك، لتشهد معك غسيل قلبك بالندى وعبير ليلة القدر والياسمين ) ( 5 ).
لعلّنا نلاحظ أن ألفاظ وعبارات المتوكل – المخطوط تحتها -اختلف وهجها وألقها حين اغترب في رام الله الجديدة، ولهذا كان ( لكلّ مقام مقال ) .
أفرد فاروق وادي – كما فعل مريد البرغوثي – كتاباً كاملا عن رام الله، جعلنا نبحث في ثناياه لمعرفة صورة رام الله عنده، يقول: ( ربع قرن من الغياب بدا لك دهراً. وها أنت تحمل حقيبتك الصغيرة على كتفك، لتشتبك مع طرقات مدينة ما زال وجهها ينكرك ) ( 6)، ويقول: (تدخل الشارع الرئيسي الذي بات مسكوناً بالأشباح الحجرية المتطاولة في الفضاء. عمارات تشعرك بالتضاؤل وأنت تتجوّل بين فكّيها الهائلين. ارتفاعها وضخامتها لا يليقان بضيق المكان، ناهيك عن انتهاكها الفظ للملامح العمرانية للمدينة والشارع على السواء ) ( 7)، ويقول: ( محفوفاً بالاشتياق المعتّق تدخل الشارع، فتصاب بالفزع … غياب الشجر الذي ظلّ ممشوقاً في الذاكرة وسطوة الحجر ). (8)
وبعد ، فإن هناك اتّفاقاً بين كتّاب النّصوص السابقة على حبّ صورة رام الله القديمة، وأنّ هناك اتفاقاً بين محبي الجمال، وفي مقدمتهم مريد والمتوكل وفاروق وادي على حبّ رام الله، رغم الصورة القاتمة التي أوردناها سابقاً في النصوص المخطوط تحتها؛ لأنّ ( القلب المتوثّب دائماً نحو الأمكنة، يظلّ مالكاً قدرته على الدخول من مسارب الذّاكرة إلى كلّ الغرف العصيّة، رغم النوافذ المغلقة .. والأبواب الحديدية العتيقة الموصدة بالصدى، والشمع الأحمر للزّمن الذي مضى ولن يعود ). ( 9)
المراجع
(1) مريد البرغوثي : رأيت رام الله ، المركز الثقافي العربي ، المغرب ، ط 3 ، 2008 ، ص 47 .
(2) المرجع السابق ، ص 62 .
(3) مريد البرغوثي : ولدت هناك ولدت هنا ، رياض الريس للكتب والنشر ، ط2 ، 2011، ص 91 .
(4) المتوكل طه : أيام خارج الزمن ، دار فضاءات للنشر والتوزيع ، عمّان ، ط1 ، 2017 ، ص 89 .
(5) المرجع السابق ، ص 90 ,
(6) فاروق وادي : منازل القلب (كتاب رام الله ) ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ط 1 ، 1997 ، ص 19 .
(7) المرجع السابق ، ص 21 .
(8) المرجع السابق ، ص 27 .
(9) المرجع السابق ، ص 53 .